” المسافر: ماذا علي أن أفعل؟
الظل: امض تحت هذا الصنوبر وانظر الى جبال وراءك، فالشمس قد مالت نحو المغيب.
المسافر: أينك؟ أينك؟”
فريدريك نيتشه، المسافر وظله
ليس الفيلسوف فقيها يظل طوال حياته حبيس النسق اللغوي للنص ولا يتحرك إلا ضمن دائرة قواعد المرجعية ولا يجتهد إلا في صلب المدونة التقليدية ولا يستنبط إلا في إطار موازنة الكليات والأصول.
ليس الفيلسوف شاعرا يتلاعب بالكلمات ويراق الأجساد ويعيد تشكيل الصور ضمن رؤية تخييلية للوجود بغية التأثير في الناس وتوجيه الأنظار نحو مساحة ضئيلة من الدنيا يغمرها ظلام ليل حالك دون رجعة.
ليس الفيلسوف سياسيا يقامر بثروات حزبه من أجل الفوز في معركة غير متكافئة ويخلط بين بعيد المدى والقريب من الأفق ويضيع الفرص السانحة لضبابية في الرؤية وغياب الحدس وتغليب الظن على الحكمة.
ليس الفيلسوف تاجرا يختار من الكلام ما يناسب البضاعة التي يروجها ويقتني من الزبائن ما يجني به الأرباح ويغطي على المغشوش من المعروض بحسن الخلق وطلاوة اللسان ويجعل من المال هدفه الأول.
ليس الفيلسوف عالما بدقائق الأمور يضع القوانين ويخترع الآلات ويتأمل في الآيات ويتطلع في الأجواء ويعتبر الطبيعة من حيث ظواهرها وسرائرها ويكشف عن العلاقات ويربط دوما بين الأسباب والمسببات.
ليس الفيلسوف أديبا يدعي النظرة الموسوعية ويزعم امتلاك الفكر الشمولي والأسلوب الشيق والطريقة المثيرة للألباب في الوصف والتعبير وضرب الأمثال ويتفنن في قص الحكايات وسرد قصص الأبطال.
ليس الفيلسوف مؤرخا يترصد الأخبار ويصحح الأرقام ويسجل الأحداث ويتابع النقائش ويزور المتاحف ويحقق المخطوطات ويدون الوثائق ويحلل التجارب الماضية ويقارن بين النماذج ويستخرج منها الفوائد.
ربما الفيلسوف هو بالأساس ارتقاء الى الأعلى وتدارك لما فات بعد مراكمة للأخطاء وتحطيم للأوثان ومراجعة للحقائق وتفكيك للأوهام بالحيطة والاحتراس وتجنب حب الظهور والانفراد بالسلطة والتملك.
لعل الفيلسوف كائن يقيس الأشياء بالمثابرة على التفسير وفق مبدأ التوازن دون الوقع في الخلط بين المساعدة والمقايضة ودون الوقوع في عبادة أهواء الذات والابتعاد عن الفضائل التي تجلب الخسارة.
يكاد الفيلسوف أن يكون ذاما للمصلحة والنفاق ومنقاد للواجب تجاه الحقيقة ومبتعدا عن التكبر والتصاغر والغيرة ومقتربا من ضجر الفكر وخطر اللغة وسكون التأمل ومكر الفرح وغرور الصبر وعناد الكرامة.
الفلسفة رحلة والفيلسوف مسافر على الدوام والمستوى هو الأعلى والزاد هو المعنى والمقصد هو الحياة والمسلك هو الأبسط والمنطلق هو عين الذات والقرار ينبع من كبد السماء والعزم ينبجس من عمق الكيان.
الفيلسوف لا يحترف الحضور القوي في الحاضر ولا يتبرأ من مشاكل زمانه وإنما يعاصر واقعه ويواجه موقفه ويسكن بخياله أبعد أركان الكون ويشعر بأنفاس الطبيعة ويوسع الحدود الضيقة لقدراتها الذاتية على الفعل ويكتشف عن تفاهة العادة لكي يطوي البلادة ويرغم اللسان على الكلام رغم إيثاره حكمة الصمت.
أن يسافر المرء إلى ذاته عائدا إلى تراثه وباحثا عن جذوره ومفتشا عن منابت هويته وجوهره النفيس شيئا وأن يتجه صوب الإقامة في عين ذاته من خلال تجاوز المألوف والارتقاء عن السائد هو إبداع مغاير لها.
الم يقل نيتشه: ” نلاحظ أن هناك خمس مستويات من المسافرين: فمسافرو المستوى الأول أي المستوى الأدنى، هم الذين يسافرون ويرون وهم مسافرون،- انهم يقادون في سفرهم، وكأنهم عمي، الذين يلونهم يرون العالم بأنفسهم، مسافرو المستوى الثالث يفيدون من رؤيتهم للعالم تجربة معاشة، مسافرو المستوى الرابع يتمثلون المعيش بشكل حي ويحملونه معهم، وأخيرا هناك بعض الأشخاص ذوي نشاط أكبر عليهم حتما بعد أن يكونوا قد عاشوا كل ما رأوه وتمثلوه، أن يعيشوا مرة ثانية بتحويله إلى أفعال وأعمال أدبية، بمجرد ما يعودون إلى منازلهم.”1[1]؟ فإذا كان معظم الناس يقطعون حياتهم بشكل سلبي دون أدنى استعمال لقوتهم الباطنية في الارتقاء فإن الفيلسوف يسافر في هذه الحياة كشخص فاعل تغمره إرادة الاقتدار. لكن إذا كان الفيلسوف مسافرا ولكل مسافر ظل يتبعه طوال حياته فأنى للفيلسوف المسافر الافتراق عن ظله؟
المرجع:
1 نيتشه (فردريك)، إنسان مفرط في إنسانيته، كتاب العقول الحرة ، الجزء الثاني، ترجمة محمد الناجي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء- بيروت، طبعة أولى، 2001، الشذرة 228، ص79
كاتب فلسفي
[1] نيتشه (فردريك)، إنسان مفرط في إنسانيته، كتاب العقول الحرة ، الجزء الثاني، ترجمة محمد الناجي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء- بيروت، طبعة أولى، 2001، الشذرة 228، ص79 انقر هنا من أجل الرد أو إعادة التوجيه