ان الامم عندما يحتدم حراكها الحضاري يستقطب مركزها كل الاطراف فيرتسم مسارها واضحا وتحدد اهدافها بدقة ، ومن ثم تتجانس مكوناتها في الرؤية، من دون اي شكل من اشكال الالغاء لتعدد رؤاها الفكرية والثقافية، وبكلمة ادق يصبح تنوعها مصدر قوة وتماسك لوحدتها، والعكس صحيح تماما، فعندما يتوقف حراكها الحضاري تتعفن، ويفقد مركزها، هذا ان بقي لها مركز، القدرة على الاستقطاب، وتنفصل اطرافها وتتلاشي، وراء هويات وهمية متعددة تطيح بوحدتها، اذا اردنا ان نجد لهذا التصور واقعا على صعيد حركة الاسلام، فاعتقد ان الاسلام رغم الفتنة التي المت به وانتهت بمقتل الخليفة عثمان بقي حراكه الحضاري محتدما حتى عام 61 للهجرة، حيث الانقلاب الاموي الذي اطاح بالخلافة الراشدة، فالغى دور الامة في اختيار الحاكم وبيعته ومراقبته، وحول الامر الى ملكية تقوم على ولاية العهد، ولكن على الرغم من الانقلاب الاموي وما احدثه من تخريب لمسارات الحياة الاسلامية، بقيت الامة محافظة على مسارها الاسلامي، لم تصطدم بالامويين ولم تهادنهم، ساعدها على ذلك ان الامويين لم يجاهروا بالعداء للاسلام، فقد حرصوا على اضفاء صبغة اسلامية على حكمهم، بل ابقوا لقب الخليفة وامير المؤمنين على حكامهم، وكانت في الوقت نفسه ماكنة التدجين والاحتواء الاموي عاملة باقصى طاقتها لبلورة مسارات جديدة تضفي مشروغية على الانقلاب، فكانت الاجواء مهيأة لتقبل رؤية الارجاء والجبر اللتين جعلتا الحكم الاموي في مأمن، واستمر انحدار الامة الحضاري مع العباسيين الذين تقدموا خطوة الى الحضيض ليحكموا بالتفويض الالهي، في الحقيقة ان الامويين وتحديدا معاوية بن ابي سفيان اول من اسس للنصب وبغض علي وسبه على المنابر، ولكن النصب لم يكن له وجود الا في الشام، التي تربى اهلها على بغض علي وحب معاوية، كما ينقل الذهبي وغيره، ما ادى الى ظهور تيارين اسلاميين، تيار اموي تحتضنه السلطة وتيار علوي تطارده وتنكل به، من هناك بدأت الطائفية بابشع صورها.
ان الحقيقة التي تربى عليها كل الطغاة القدماء والمعاصرين، ان هناك تهمة اذا ما الصقت باحد اودت بحياته، كانت هذه التهمة وما زالت جاهزة لان تشهر في وجه اي معارض فحديثا هي تهمة الخيانة العظمى وعقوبتها الاعدام تلصق بكل معارض يشكل خطرا على الحاكم، تصور ان تهمة التخابر مع دولة ليست معادية كافية للاعدام من قبل نظام يقيم علاقة دبلوماسية كاملة مع دولة عدوة، هكذا هي موازين الطغاة، كانت التهمة التي لاحق بها بنو امية معارضيهم هي الزندقة والرفض، فكل من لا يقول بما يقولون به من اراء ، ويجاهر في الوقت نفسه بارائه التي لا تروق لهم يقتل بهاتين التهمتين على الرغم من انه يشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله شهادة اصدق بكثير من شهادة الحاكم الاموي كما حدث للجعد بن درهم الذي قتل بتهمة الزندقة، فهو يقول بحرية الاختيار للعبد التي تبطل مذهب الامويين الجبري الذي يخدش عدالة الله جل وعلا، من هناك ارتسمت المسارات الطائفية، الا انها كانت تندثر عندما تنهض الامة وتنهض عندما تندثر الامة، وقد بقيت هذه المسارات المقيتة اسلحة بيد طلاب السلطة يكرسون بها نفوذهم ، ومن اوضح شواهدها الصراع العنيف الذي دار بين المعتزلة والحنابلة ، لقد كان صراعا فكريا بين تيارين مسلمين، الاول عقلي يقر بقدسية النقل، والثاني نقلي لا ينكر دور العقل، الا ان العباسيين تلقفوه، فبالاعتزال كان المامون قد استأصل شأفة الحنابلة، وعلى النهج نفسه سار المعتصم وغيره، واما المتوكل فبالحنابلة استأصل شأفة الاعتزال، من دون شك ليس المامون ، على الرغم من المبالغة في تصويره داعيا الى العلم، ولا المتوكل الذي اشتهر بمجونه، انهما معنيان بالصراع الفكري بين تيار النقل وتيار العقل بقدر عنايتهما في توظيف ذلك الصراع في خدمة سلطانهما.
اليوم وفي اسوأ لحظات انهيار الامة وانكفائها الحضاري يظهر تنظيم داعش، ليمثل اسوأ افرازات الطائفية على مدى تاريخ الامة، مناديا بالخلافة الاسلامية، والمستصحب من مفهوم الخلافة الاسلامية ليس مفهوم الخلافة الراشدة ، انما هو المفهوم المشوه الذي احدثه الامويون وتوارثه العباسيون والعثمانيون والفاطميون والصفويون، وهو الملك العضوض والجبري الذي تقوم عليه اليوم ملكيات، تحكم باسم الدين واهل البيت، فتصطف الامة معسكرين متناحرين معسكر سني ليس على منهج ابي بكر وعمر رضي الله عنهما، وانما على منهج معاوية، وكردة فعل يبرز معسكر شيعي، وان على مستوى ضيق يتسع مع الايام، ليس على منهج على عليه الاسلام، وانما على منهج الصفويين، ويتلقف الساسة هذا الواقع المريض ورقة تكرس نفوذهم ، مثلما كان يفعل اسلافهم الامويون والعباسيون،
اعتقد ان تحرير الموصل لحظة يجب ان توظف في اتجاه نهوض الامة من كبوتها، فقد اختلطت في تحقيق هذا النصر الكبير دماء العراقيين من سنة وشيعة في ملحمة بطولية سطرها جيش وطني بمستوى هوية العراق، جيش اثبت للعراقيين وغيرهم من الشعوب ان من خسر الموصل الجندي العراقي، وليس الجيش العراقي، انما هو خليط من التجار المبتزين المنتحلين لهويات كاذبة، من منهزمين لو كانوا بمستوى حمل الامانة العسكرية لقتلوا انفسهم الا انهم لم يفعلوا، واستذكر قول امير المؤمنين علي عليه السلام لجناح من جيشه عندما استباح جند معاوية بقيادة الغامدي حرمة ذلك المكان: {فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً} ، انما الجيش العراقي بضباطه وجنوده الشرفاء الذين ترفعوا عن كل الصغائر المؤدية الى الهزيمة، وتساموا ليكونوا بمستوى تحرير وطن، هو من استعاد مدينة الموصل.