إنّ هذا الحرب المأساة وقعت لتحقيق آطماع الإستعمارية للدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ولإضعاف البلدين الجارين العراق وإيران ولغرض إسستنزاف مواردهما من الذهب الأسود، فالعراق الذي أمم ثروته النفطية في الواحد من حزيران سنة 1972 أصبح هدفا لهذه الدول الإستعمارية، أماالحكام الجدد في إيران فقد رفعوا شعار تصدير الثورة الإسلامية بقيادة الخميني إلى الخارج وخاصة إلى العراق لوجود أكثرية من الطائفة الشيعية فيها وكذلك إلى بعض دول الخليج الغنية بالذهب الأسود.
وهكذا أستمرت المعارك سجالا بين الفريقين المتحاربين وأشتعلت النيران التي كانت تزود بالحطب من قبل بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية الطامعة في ثروة القرن العشرين…. الذهب الأسود.
كان موقف الدول المنضوية تحت لواء مجلس التعاون الخليجي كالمملكة العربية السعودية والكويت مساندا لحكومة العراق في هذه الحرب الضروس بالمال وذلك بسبب تخوفهم من ألأطماع الإيرانية.
بدأت القيادة العسكرية بدعوة الإحتياط للخدمة في الجيش من مختلف المواليد ودورات الضباط الإحتياط وكنت أترقب دعوتي للإلتحاق بالجبهة ولكن نظرا لكوني منسوبا إلى صنف الأشغال العسكرية وهو صنف غير قتالي فلم يتم إستدعائي لخدمة الإحتياط خلال فترة الحرب التي أستغرقت لثمانية سنين عجاف.
إنّ المعاناة والآلام التي نجمت نتيجة لهذا الوغى لا يمكن لقلم أن يصفها كلها، فالإقتصاد تدهور والآلاف من العوائل ثكلت بشبابها بين قتيل وجريح أو مفقود أو أسير.
وهكذا مرت أيام وشهور وسنين وأصبح الحرب جزءاً من حياتنا اليومية وأستمر العراقيون بممارسة حياتهم في خضم هذه الأحداث والتناقضات.
بالرغم من هذه الظروف العصيبة أستمرت دائرتي بتقديم الخدمات الإستشارية الهندسية لدوائر الدولة، كان العراقيون يقاتلون ويبنون في آن واحد، فالصواريخ أرض أرض والطائرات والمدافع والدبابات كانت تهدم والمهندسون والعمال يبنون، ومن بين النقيضين مرت قافلة الضياع نحو المستقبل حاملا كل ما تزخر به هذه الحياة من يأس ونقيضه الامل بحياة أفضل للإنسان في هذا الكون العجيب.
أنقضت خمس سنوات من هذه المأساة الإنسانية بين خوف وألم وحزن ورجاء بأنّ الحرب ستتوقف ولكنها أستمرت بكل عنفوانها.
تأقلمنا مع الظروف الجديدة وبدأتُ أنغمس في العمل فشاركت بتلك الفترة في عدة مسابقات معمارية بعد فوزي بالمرتبة الأولى في أول مسابقة معمارية شاركت فيها لتصميم سياج موحد يحيط بنصب الجندي المجهول ومتنزه الزوراء وساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد، لكن المشروع بعد إقراره من قبل وزير الإسكان والتعمير وأمين العاصمة بغداد في الإجتماع الذي حضرته في الوزارة لم يتم تنفيذه للظروف الأقتصادية التي كانت يمر بها القطر بسبب الحرب.
في هذه الأثناء تم تنسيبي للأشراف ومتابعة تنفيذ مشروع ساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد التي صُمِمت ونفذت من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية بالإشتراك مع شركة فود اليابانية، وقد كان عملي في هذا المشروع فرصة سانحة للإحتكاك بالخبرة العالمية في مجالي التصميم والتنفيذ.
كان المشروع يضم منصة لجلوس رئيس الجمهورية وأعضاء قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي والوزراء والضيوف بسعة مائة عشرون شخصا مع توفير أنابيب للتكييف بجانب كل مقعد ومنصة للخطابة.
على جانبي منصة ألشرف كان التصميم يحتوي على منصتين لجلوس الضيوف الآخرين بسعة خمسمائة شخص لكل منصة.
أضافة إلى ذلك كانت منصة الشرف مرتبطة بصالة المدخل الرئيسي وغرف للإدارة وصالتان للجلوس والطعام مخصصة لضيوف الشرف مع مكتب خاص لرئيس الجمهورية صدام حسين التي كانت مزودة بشباك ذو زجاج مقاوم لطلقات البندقية.
أمام المنصات تم تصميم شارع ألإستعراض بعرض خمسين متر لمرور الكراديس والدبابات أثناءالإستعراضات العسكرية.
في الجهة المقابلة لمنصات الجلوس تم تصميم مبنى دائري داخل حوض الماء كان يستخدم لعرض أشعاعات الليزر في سماء بغداد ولكن الشباك الامامي المقابل للمنصة الرئاسية التي كانت ترسل ثمانية وعشرون إشعاعا ليزريا نحو مرايا بنفس العدد منصوبة فوق المنصة الرئاسية تم أقفاله لاسباب أمنية خاصة بأمن رئيس الجمهورية. كان سبب إختيار العدد ثمانية وعشرون لأشعة الليزر والمرايا كون عيد ميلاد صدام حسين مصادفا لتاريخ الثامن والعشرين من نيسان.
المشروع ضم أيضا ساحة كبيرة لوقوف حشود الجماهير وشاشتان لعروض الفيديو والأفلام مع مبنى للمسرح وسينما ومبنى لعرض الأعمال الفنية ومقهيان.
في احدى الزيارات المتكررة لصدام حسين لمشروع ساحة الاحتفالات الكبرى في بغداد وعندما كان المشروع قيد الانشاء طلب من المهندس المقيم ان يخبر الشركة اليابانية التي كانت تنفذ المشروع للبدء بتفكيك القوسين المشيدين في بداية ونهاية شارع الموكب والتي كانت من تصميم نحات ياباني.
كما اوعز باجراء مسابقة لتصميم قوس للنصر على ان تشيد في موقع القوسان الملغيان.
حدث ذلك في اثناء الحرب العراقية الايرانية وكنت حينذاك امثل وزارة الاسكان والتعمير في موقع المشروع كمهندس معماري مشرف على التنفيذ.
اقترح المهندس المقيم للمشروع اشتراكي في هذه المسابقة المهمة وبعث كتابا الى وزارة الاسكان والتعمير لدعوة المهندسين المعماريين العاملين في الوزارة للاشتراك في هذه المسابقة.قدمتُ مع اثنتا عشر مهندسا معماريا التصاميم المعمارية للمسابقة.
بعد فترة تم اعلامنا من قبل الوزارة بوجوب حضورنا الى القصر الجمهوري للاجتماع مع رئيس الجمهورية صدام حسين.
في الموعد المحدد اجتمعنا مع صدام حسين في احدى قاعات القصر الجمهوري.
حضر الاجتماع اربعة وعشرون مهندسا معماريا وعدد من النحاتين العراقيين اذكر منهم الفنانان اسماعيل فتاح الترك مصمم نصب الشهيد وسهيل الهنداوي وعدد من ممثلي المكاتب المعمارية من القطاع الخاص بينهم مهندسة معمارية واحدة.
اعلمنا صدام حسين عن نيته باعادة المسابقة وذلك لإنّه يرتأي ادخال رموز معينة في تصميم قوس النصر، من تلك الرموز قوس عربي اسلامي ، النخلة العراقية، العلم العراقي وسيوف عربية مخترقة خوذ الجنود الايرانيين.بعد اكمال حديثه فسح رئيس الجمهورية المجال للاسئلة.
تحدثت المهندسة المعمارية الوحيدة الحاضرة في الاجتماع قائلة:
– سيدي الرئيس ان تصميم مشروع ساحة الاحتفالات الكبرى له طابع معماري خاص،فاذا جمعنا في تصميم قوس النصر كل الرموز التي طلبتها فاني اخشى من عدم تلاؤم تصميم القوس مع الطراز المعماري لأبنية المشروع المنفذ.
تعجبت من جراة المتحدثة وانتظرت بفارغ الصبر جواب الرئيس صدام حسين.
ابتسم صدام حسين وخاطب المهندسة المعمارية قائلا :
– “شوفي ست (وذكرها باسمها) في هذا الاجتماع كلنا زلم (رجال باللهجة العراقية) ماعداك، وانت جميلة وانيقة،هل تبدين نشازا بين هذا الجمع من الرجال؟ ام انك تضيفين جمالا ورونقا على هذا المجلس؟ كذلك الامر بالنسبة لتصميم قوس النصر، فاذا جاء التصميم متناسقا وجميلا فسيضيف على تصميم ابنية المشروع جمال اضافيا.”
كان جواب الرئيس مقنعا ويدل على ذكاء وسرعة بديهية صاحبه.
بعد شهرين تم تقديم اربعة وعشرون تصميما للمسابقة واختار الرئيس صدام حسين تصميم الفنان الراحل خالد الرحال (مصمم نصب الجندي المجهول) للتنفيذ وشكلت لجنة من الفنانين برئاسة الفنان اسماعيل الشيخلي لاختيار خمس تصاميم اخرى للفوز بالجوائز المتبقية وحاز تصميمي الذي قام الفنان نداء كاظم بانجازالاعمال النحتية له بالمرتبة الرابعة.
أستلمت على أثر إعلان النتائج في الصحف جائزة نقدية مقدارها الف دينار من وزير الثقافة والإعلام حينذاك لطيف نصيف جاسم كتكريم مقدم من رئيس الجمهورية.
كانت هذه المرتبة المشرفة في المسابقة مثار إعتزاز المدير العام لدائرتي ووزير الإسكان والتعمير، وتم تكريمي من قبلهما بمنحي قِدما في الوظيفة لأغراض الترفيع والتقاعد.
بعد انتهاء المسابقة اطلعت على التقرير الفني لمقترح الفنان خالد الرحال.
الفكرة التصميمية للقوس المصمم من قبل خالد الرحال وبمشاركة المهندس المعماري عدنان الاسود احتوت عدة رموز وهي كالاتي:
– قبضة اليد الحاملة للسيف العربي: ترمز الى قبضة صدام حسين التي تخرج من باطن الارض مفجرا اياها.احد السيفين موجه نحو الغرب اي الى اسرائيل والاخر نحو الشرق اي الى ايران والجدير بالذكر أنّ السيفين المنفذين في الموقع الحالي متجهين نحو الشمال والجنوب وليس كما كما ذكر في تقرير المسابقة.
– الشبكة التي تحوي الخوذ الحربية والخوذ المتناثرة على ارضية شارع الموكب تحت القوس ترمز الى هزيمة الجيش الايراني امام الجيش العراقي. وفكرة الشبكة التي تحوي الخوذ مقتبسة من نحت من فترة الدولة الاشورية، وفي هذه المنحوتة نلاحظ جماجم القتلى الفرس موضوعة داخل شبكة.
– الاسد الذي يحمل شبكة الخوذ باسنانه يرمز الى القوة.
– التقاء السيفين يشكلان قوسا عربيا اسلاميا.
– لم يستعمل الفنان خالد الرحال العلم العراقي في مقترحه وقد تم وضع علم في موضع التقاء السيفين وبتوجيه من الرئيس صدام حسين بعد تنفيذ المشروع.
من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)
يتبع