وهذا واحدٌ من الجوّابين المشّائين الحارثين الشوارع والحارات ، تأتيك موسقة صفّارته قبل مدفع الإفطار ، بساعة رزق حلال . أظن أن الناس ببغداد ، يسمّون آلته التي تموسق قلوب الصغار الأغضاض ” الماصولة ” وقد تحرّفها بعض ألسنتهم ، فينحتونها على بناء المذكّر . هو بائع ” شَعر بنات ” وقد قنصتْه عينايَ هنا ، في غير عصرية وعصرية ، حتى كاد قلبي الرهيّف ، يطير من عصف الحنين ، فوجدتني أتفتّل قدّام الكبدين ، نؤاس وعلي الثاني ، تفتّلَ الآدمي ، إذ يقرأ ويتصوف ويرتّل ويجوّد ، ما تيسّر من بطن ذاكرته الطامسة : شَعَر بناتْ ، وين أولّلي ، وين أبات . أبات بالدربونة ، تاكلني البزّونة . أبات بالمحطة ، تبكي عليَّ البطة . أما شعر البنات ، فهو مطعوم طيّب ومدهش بعيون الأطفال ، وينتج من مادة السكر ، بعد طحنه وإسالته وتنكيهه وتفكيهه ، بمطيبات وملونات ، ثم تسليكه وتمريره ، عبر ماكنة ، لم أتيقن من شكلها ، لكنها ربما تشبهت بماكنة غزل ، تحيل الناتج الى خويطات رفيعة ، أرفع من خيط البكرة والكنديرة ، وعندما ينضج الغزل ويكبر ، يصار الى لفلفة بعضه ، فوق رأس عود خشبي ، فيتكوّش ، فتشبه كوشته ، كوشة البنات الحلوات ، ومن هذا الزاغور ، انولدت تسمية حلاوة الأول الإبتدائي هذه . ثم انت على ميعاد آخر – رعاك الله وعافاك – مع واحد من الجوّالين الجوابين الدوارين في الأزقة وفي الحارات ، هو الرجل حامل الطبل الذي تسميه الناس ، المسحّراتي ، أو أبو الطبل ، وهذا الكائن الحميم ، يأتيك مطلع زمان السحور ، فيشلعك من قعدتك ، صحبة الولد نؤاس ، وبذيلكما الولد علي الثاني ، الذي نسي نعله من قوة الفرح ، فتحيطون بالرجل ، فيرشّ قرعاته وتنغيماته وطقاطيقه على رؤوسكم ، بركة وعافية ، وما يكاد يهجر موضع انشتالكم ، مبعدة زخة ضربات فوق خاصرة الجلد ، حتى يشرع الولدان بمفتتح لعبة كل سحور ، فيرجمانك بسبعين سؤال وسؤال ، عن الشغلة والشغال ، فتأتي بهم على الطبل الذي هو من جنس الطبلة والزنبور والدفّ ، وله مشتركات مع الزنجاري والجمبارات وطقّ الإصبعتين ، وبعد ثلاث هنيهات وسعلة واحدة ، تتعيقل وتتخيلف ، وتفرش قدام هاذين الشيطانين المشاكسين ، ورقة مستلة من دفتر القراءة الخلدونية التي ما زالت تخزن في جبّها ، جملة ملتبسة تقول : طالب طلَبَ طبولَنا ، وحمداً لله الجميل ، أنهما لم يسألا عن سرّ ذاك الطلب العجيب . ولكي ينزل الأكل والشرب ببطنك ، هنيئاً مريئاً سحوراً ، عليك أن تقيم فوق السؤال سؤالاً ، فتحدّث منصتيك ، عن طبل الحرب ، وطبلة الأذن ، وطبلة سمّاعة الراديون ، وطبل العرس الذي قيل في ضاربه المتحمس الجاد المجيد القوي ، ان ضربه كضرب واحد ” طبلجي والعرس لابنه ” وما زلت أنت والعيال ، تتراميان في لجة من عجب وضحك ودهشة ، حتى تفزّ فزّة ميت بحلق قبر ، فتجد صدرك ، وقد أصابه سهم السؤال الأخير : من أي شيء يُصنع الطبل ؟ فتتشاطر عليهما ، وتلصمهما بأن الطبل وعصاه ، ينصنعان من الخشب ، فيعيدان رميك بأس سهم جديد : انما قصدنا يا بابا ، تلك المادة الملصوقة على دوّيرة الخشب ، فتتذاكى وترميهما بضباب الجواب ، اذ المادة هي من جلد الحيوان ، فيسألانك عن اسم الحيوان ، فتعصر مخّك لتخرج منه جلد حيوان مكروه ، وتخبرهما بأنه الأسد ، فيبدي الولدان قهراً شديداً على الأسد ، فتستبدله بالزمال ، فتتدامع مقلتاهما ، فتستبدل الزمال بالخروف ، فتطفر الدمعات السواخن ، فتسكت وتصفن وتتناوح ، لكنك لن تجرؤ أبداً ، على إسرارهما ، بأن جلد الطبل ، انما يصنع الآن ، من جلد الإنسان . شكراً كثيراً . روحوا ناموا .
[email protected]