17 نوفمبر، 2024 8:24 م
Search
Close this search box.

تفكيك التماهي مع الذات في عصر انتهاء الحكومات المركزية

تفكيك التماهي مع الذات في عصر انتهاء الحكومات المركزية

الفيلسوف و عالم الاجتماع المعاصر يورغن هابرماس، المولود عام 1929 في مدينة دسلدورف الألمانية، المنافح والمساجل في ميادين شملت تاريخ الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس واللسانيات والسيمياء والتاريخ والسياسة يقول بأن الحداثة مشروع لم ينته بعد لأنه لم يتجسّد قطّ.
أما فيما يخص العقل فمفهومه عنده يعني تجديد دلالته وذلك بتحويله من عقل أداتي كلياني شمولي إلى عقل حواري تواصلي قائم على “الاتفاق” (consensus) الذي يصوغه المجال العمومي. والتواصل من منظور هابرماس لا يحصل إلا متى ما كان مستقلاً بذاته.
فمن المعلوم بأن غياب احترام حق الاختلاف وحضور رموز سياسية بهدف زرع الألغام علی طريق الآخر المختلف لسد الفرص في وجه العالمين في سبيل بناء المجتمع الديمقراطي التعددي المنفتح و تثبيت قواعد الدولة الفدرالية هو المناضلة في سبيل ولادة الديكتاتورية المتوحشة.
لقد فرحنا بما كسبه العراقيين من مكاسب ايجابية بعد التغيير  و سقوط النظام الفاشي عام 2003 و موت الآلهة الحاكمة و إختفاء أكثرية الرموز المجرمة والمتطفلة التي جعلت من نفسها وصية علی الكيانات المختلفة و قلنا في نفسنا، ها هو الانسان العراقي قد تحرر من الخوف و أن عقدة اللسان عنده قد انحلت بعد أن كانت مستحكمة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن اليوم ترانا نجابه ظاهرة جديدة تثير جملة من التناقضات، بعد أن بدأت تلعب علی المجتمع بإسم الدين والوحدة الوطنية تارة وبإسم القومية تارة أخری و تقوم بالنبش في الطائفية المقيتة مستخدماً هذه اللعبة الخطيرة كوسيلة لمحاربة النزعة الكوردستانية نحو الحرية والاستقلال مما يغيض اصحاب النظرة الديمقراطية و جماعات الفكر الليبرالي التقدمي من مختلف الكيانات و الطوائف علی السواء.
صحيح بأن الحديث عن الديمقراطية يتطلب منّا أن ننظر الیها کمثل أعلی  بالرغم من التمفصل الموجود بين “مفهوم” الديمقراطية وبين “التجربة” الديمقراطية وأن معالجة “تركة الماضي” تكمن في اللامركزية وصناعة ولايات أو أقاليم فدرالية، لكن ما جدوی التفكير والبحث عن أنماط الديمقراطية وسبل تطبيقها علی أرض الواقع، فيما إذا كانت هناك جهات سياسية مدعومة من قبل قوی إقليمية تعمل في العراق علی إلاتيان بالديکتاتورية من جديد علی أكتاف الآلية الديمقراطية.
هؤلاء لم تصلهم بعد رسالة تراجيديا سقوط الآلهة التي كانت تعشّش في المجتمع منذ زمن طويل و نسوا مشاهد النهاية الحقيرة لصدام حسين و زبانيته و دولته القومية بعد جلبوا للمجتمع العراقي أهوالاً وكوارث وعواقب وخيمة و بعد أن قاموا بضرب الإنسجامات والتعايشات عرض الحائط علی امتداد خمسين سنة مضت و غيّروا الواقع بغناه و تعقيداته و التباساته الی بعد واحد وحيد العنصر بهدف تحويل العراقيين وخاصة الشعب الكوردستاني الی جماجم و هياكل عظمية تسير في الشوارع منزوعة الروح، لإستخراج شخصيات تافهة تطحنها مشاعر الدونية والعجز واللاجدوی.
في هذا العصر الرقمي المعلوماتي بمعطياته الجديدة و بعد كل هذه التغييرات التي طرأت في العالم العربي و نهوض شعوب المنطقة  ضد الحكومات المركزية المستبدة لا يمكن للشعب الكوردستاني أن يقبل بأن يحكمه طغاة كما في السابق يطلون الطغيان برأسهم كلما سنحت لهم الظروف. القيادة الكوردستانية تسعی اليوم في سبيل ترشيد السلطة في العراق وعقلنتها وطرد القوقعة الإصطفائية فيها، تلك القوقعة التي تخفي في أعماقها أسرار إحتكار السلطة وممارسة الوكالة الحصرية، لأنها تدرك كل الإدراك بأن فيها تكمن الضمانة المثلی من الجور والتعسف و التعريب والتهجير و الأنفلة. فالحكومات التي لا تنزع الی السلم مع كوردستان و الی المصلحة العامة في العراق، تبقی حكومات أمر واقع، أي غير شرعية، ظالمة، مغتصبة، هدفها تذويب المواطنين في ما يشبه بالقطيع، بعد ممارسة الرفض والإقصاء ضدهم بهدف إستئصالهم مادياً و إلغاءهم رمزياً. 
نحن نری بأن رئيس الحكومة الحالية في بغداد وقع في أسر التماهي مع الذات ومع النزعة المركزية لا يستطيع تفكيكه، إذ نلمس أعماله التي تأتي بعكس ما أتی من أجله و مساعيه من أجل سلب الهوية والإرادة و محو التحديث والمعاصرة و مواقفه بتفرده و نرجسيته وعُظامه الذاتي ضد الأهداف، التي كان يدعي بأنه يدافع عنها عندما كان معارضاً يعيش علی أرض كوردستان.
من يعمل علی إعادة العراق الی المركزية و تجهيز المجتمع المدني بالعقل العسكري التقليدي لا يفكر في إنتهاج الحوار البناء كطريق للتعامل مع القضايا السياسية الخلافية العالقة بين حكومته و بين حکومة كوردستان، بل هدفه تراكم المشاكل لخلق أزمات مستمرة، ليقوي من خلالها مكانته الضعيفة المتحركة.
التجارب أثبتت بأن الأمن و التعايش  السلمي بين المكونات الأساسية في العراق لا يمكن جلبه بالقوة العمياء والهيمنة الفئوية أو بإحتكار للسلطة، فكيف بالخطط الجهنمية و الأحلام المجنونة، التي تولد الحماقات التاريخية والتي ترتد دوماً علی العراق خراباً و دماراً.
الشعب العراقي بكورده و عربه و تركمانه و الآشوريين والكلدان والأرمن منهم بحاجة ماسة الی إنتاج ثقافة جديدة، منفتحة، مدنية و سلمية مبنية علی عقلية المداولة والشراكة الحقيقية لبناء مشترك فاعل يزيد الرغبة الوطنية في الوحدة الوطنية الحرة والتصميم على المحافظة على استقلال كل كيان وإقليم في الإتحاد و يقلل بالمساءلة والمداولة من ثقل الأضداد والمتعارضات و منطق المماهاة والمطابقة، حيث الحكم يعترف لكل واحد بالمساواة ويبتعد عن مفاهيم الأصل  كالزعامة الفكرية والأحادية والاحتكار. فالديكتاتورية تلوث الفضاء الفكري و تبتلع المجتمع المتفتح الساعي الی تثبيت التعددية و توسيع مدارات الفدرالية و تشجيع الاستثمار في العقل البشري و التخلص من الوصاية النبوية عن كل ما يمكن أن يضيف شيئا جديد.
وختاماً نقول: فليكن الهدف هو المعرفة وصناعة الحياة والعمل من أجل العيش المشترك بتضافر كل الجهود، لا بالهروب من المسؤولية التاريخية وعدم تسلط الضوء علی المشكلات الراكدة منذ سنوات. ففي عصر تدويل الديمقراطية والإعتراف بحق الشعوب المتساوي في تقرير المصير لا مكان لعقليات و حكومات تقوم بالحملة التبشيرية من أجل المركزية.

أحدث المقالات