كنت أتساءل، قبل مشاهدة مسلسل “عمر” الذي يوشك عرضه على الانتهاء مع نهاية شهر رمضان: هل سيكون بعد فيلم “الرسالة” عمل فني ملحمي يحكي قصة الإسلام بذلك التكثيف، وتلك الروح التي قدمها المخرج العربي والعالمي الراحل مصطفى العقاد؟ الرسالة الفيلم الذي أنجز منتصف السبعينيات في أماكن نقلتنا فعلاً إلى مكة. وإضافةً إلى المكان كان الزمان حاضراً بملابس واكسسوارات وموسيقى ووجوه جسدت شخصيات كأننا رأيناها حقاً.. كما رسمناها في مخيلتنا ونحن نقرأ التاريخ، كلها إذن كانت تنتمي إلى ذلك العصر والمكان فصدقناها وآمنا بها.. وذلك ما ينبغي أن يتوفر في أي عمل فني يريد أن يقدم تاريخاً لأجيال تتلهف لمعرفة رموز عظيمة أحدثت منعطفاً في التاريخ.
فيلم الرسالة وضع بصمةً لتاريخنا العظيم بعمل مبهر ننحني إجلالاً لصانعيه من ممثلين وفنيين إلى يومنا هذا.. وأذكر يوماً أني التقيت، من حسن حظي، المخرج الراحل مصطفى العقاد في تونس أيام قرطاج السينمائية عام 1996، وقلت له بالحرف الواحد: “إنك يا سيدي قدمت عملاً اختصرت به كل الأعمال التاريخية التي تحدثت عن الإسلام والرسالة المحمدية فشكراً لك، وسعدت بلقائك مخرجاً عبقرياً ارتقى بعمل يضاهي الأعمال العالمية على مختلف موضوعاتها وقصصها..”.
واليوم يقدم لنا حاتم علي، مخرجاً، والدكتور وليد سيف، كاتباً، عملاً لا يقل جمالاً وإبهاراً ودهشةً عبر الشاشة الصغيرة. هكذا سمعت وسمعنا عن انتاج مسلسل عن الصحابي والخليفة الفاروق عمر بن الخطاب (رض)، تحمست لمشاهدته، وفرحت أكثر لأنني وجدت إجابات شافية لأسئلة كان أولادي يبحثون عن تفسير وإضاحات لها، وقد بدأت أسئلتهم تتزاحم عليّ وهم يشاهدون يوماً فيلم “آلام المسيح” للممثل والمخرج ميل جيبسون، علماً أنهم قد قرأوا عن الخليفة الخطاب (رض) في منهجهم الدراسي، لكنهم كانوا يتوقون إلى مشاهدة صورة كالصورة التي قدمها فيلما “الرسالة” و”آلام المسيح” لتترجم وترسخ ما قرأناه وما شاهدناه مجسداً على الشاشة، وهذا في رأيي عين الصواب، كواحدة تعمل في المجال الفني.
إذن جاء الوقت في زمن طغى عليه عالم التكنلوجيا والعوالم الافتراضية التي يخوضها أبناؤنا وشبابنا، ويمكن أن ينغمروا في عوالم تنسيهم ما قرأوه، بل تبعدهم عن الغوص والغور في معرفة الرموز التاريخية التي منحتنا قيماً جديدةً وأفكاراً خلاقةً وأخلاقاً تبني الإنسانية والمجتمع.. لهذا كله اجتمعنا سويةً لمشاهدة المسلسل، وأنصتنا معاً إلى لغة عالية تبلورت في حوار بليغ صعب، لكن يسهل الوصول، من خلاله، إلى التصديق والفهم.. فكم واحد منا يقرأ القرآن الكريم ولا يحتاج إلى تفسير لكلماته، فيمتزج الكلام البليغ بالإيمان عندنا ليصل إلينا بلغة سهلة الفهم، ولعمري هذا هو السهل الممتنع.. هكذا فرض علينا الدكتور وليد سيف بأن جعل الصغير والكبير تصله اللغة والحوار بخطاب واحد يدخل العقل والقلب في آن واحد، ويجعل من الحوارات الرصينة بلاغةً على لسان جميع الشخصيات العظيمة شعراً لا يستطيع أي شاعر أن ينظمه.. وهكذا منح هذا النص التاريخي إلى يد مخرج له باع طويل في التعامل مع كل أنواع الدراما التي قدمها على مدى سنين، وليحزم أمره الآن بعمل صعب المنال والطرح.. هكذا بدأ المخرج العربي السوري حاتم علي العمل، فنراه قدّم الشارة الأولى بأسماء الفنيين فقط على خلفية أعطتنا ملخصاً لرحلة الخليفة عمر (رض)، وأدخلنا بعدها إلى حلقته الأولى التي بدأها بعمر (رض) وهو كهل يقف في حجته الأخيرة يخاطب العرب والمسلمين. وانتقل إليه وهو يسير على ناقته مستذكراً حياته شاباً وما جرى له وكيف أصبح.. حقاً كانت مشاهد مهدت لاستهلال مقنع مؤثر جميل، ولم يأت هذا، أو يمر جزافاً إلاّ إذا أحسن المخرج في اختيار الممثلين دعماً لشكل الشخصية، أو في الأقل الاقتراب منها من حيث الشكل المتخيل والأداء.. وهذا شأن الأعمال الناجحة والمتكاملة، فاختيار الفنان السوري سامر إسماعيل لأداء شخصية الخليفة عمر (رض) كان اختياراً صائباً، إذ استطاع هذا الفنان أن يرسم بعفويته شكلاً لم نعتد عليه، أو لم نتوقع كيف يؤدّى.. والكل يرقب بعين النقد أو الإعجاب في النهاية… فقد رأيته، من وجهة نظري، وأعتقد بأن الكثيرين يتفقون معي على أنه كان في المكان الصحيح، إذ أثار فينا الإعجاب وعزز قناعتنا به، وأسقط عنا النقد والتأويل. إن سامر اسماعيل، وهو ممثل شاب حديث التجربة، استطاع الوقوف بجدارة أمام عمالقة من نجوم الفن في العالم العربي، وهذا يحسب له وللمخرج حاتم علي الذي اختاره، كما يحسب للثاني اختياره الفنان السوري غازي مسعود لأداء شخصية الخليفة أبي بكر الصديق (رض)، وكذلك يمكن القول عن اختياره للفنانين: المغربي محمد حسن الجندي (شخصية عتبة)، العراقي جواد الشكرجي (أبو الحكم)، القطري غازي حسين (أمية بن خلف)، السوري تامر العربيد (عثمان بن عفان)، الكويتي فيصل العمري (بلال الحبشي)، التونسي فتحي الهداوي (أبو سفيان)، التونسي غانم زرلي (علي بن أبي طالب)، السوري مهيار مهيار خضور (خالد بن الوليد)، المغربي محمد مفتاحي (الحمزة)، السوري قاسم ملحو (عمر بن العاص)… وتطول القائمة بشخصيات فنية مبدعة أثرت وحفرت في ذاكرتنا، وتركت بصمات كثيرة في تاريخها الفني، واجتمعت أخيراً في عمل سيبقى طويلاً في الذاكرة، ويُعدّ أرشيفاً ومرجعاً مهماً أعتقد بأنه سيدفع أجيالاً إلى البحث في عوالم تاريخية لا افتراضية، ويقدم كذلك إضافةً لطلاب الفن كي يتعلموا دروساً في الإخراج والتمثيل والتصوير والإضاءة والصوت والمونتاج، وكل عناصر اللغة السينمائية والفنية، وهذا ما يجب أن يُعمل عليه.. أن نفسر ونجسد بالصورة والصوت كل الذي قرأناه من كتب لكبار المؤرخين والمؤلفين والروائيين في أعمال تبقى خالدة كعمل الخليفة عمر (رض)، الذي نستطيع أن نقول عنه أنه سار في خط ملحمي واضح يرتقي إلى مصاف الأعمال العالمية، ونحن نرى تلك الصورة الصادقة التي بدأت ببناء الأماكن التي احتوتنا، وسحبت مخيلاتنا إلى ذلك الزمن، وإلى الملابس التي صُممت وتناسقت بألوانها ووظفت درامياً لتعكس طبيعة الشخصيات، وإلى الإضاءة ومساقطها التكنيكية التي أعطت لوناً ورمزاً تعبيرياً ورمزياً لكل مشهد.. فلم أجد أجمل من المشاهد الليلية التي توحي إلينا بأن ضوء القمر قد سُخر فعلاً ليعطينا تأثير المشاهد، أو أن الشمس ضربت فعلاً بأشعتها عيني أبي الحكم (أبي جهل)، ومشاهد كثيرة لا تُعد بتقنيتها التي رادفت كادر الصورة، وزوايا الكاميرا المحسوبة بحجمها وتفاصيلها، وحركتها التي انسابت مع الحدث بشكل مدروس لتجتمع كل هذه اللقطات والمشاهد في توليف ومونتاج دقيق أعطت للحدث في النهاية شكله الدرامي المتقن، مصحوباً بموسيقى تصويرية (للموسيقار التركي فهير أوغلو) تترجم حتى ما لا يقال.. في غزل ولحن موسيقي رفيع المستوى حتى جعلت المتلقي تدمع عيناه بالدموع وهو يسمع.. أطوال الموسيقى التي استخدمت كلازمة لبعض الشخصيات، لا سيما شخصية عمر (رض)، ولا ننسى المؤثرات الصوتية التي منحت للمسلسل تأثيراً وقد دمجت بمكساج ذي حرفية عالية.. فكلنا يعرف أن العمل التاريخي يتطلب الكثير من الجهد والعمل الشاق، خاصةً مشاهد المعارك، فالمتلقي يريد أن يرى في النهاية معركة حقيقية تملأ عينيه ويصدقها، فإن لم تتوفر كل العناصر فيها تحدث ثغرة في العمل.. لقد انجزت معارك المسلسل بدقة وبلقطات صعبة التنفيذ، مع الأخذ بنظر الاعتبار هذا الجمع من الممثلين والكومبارس، وتوليف رسم الكرافيك، وفصل اللقطات بعضها عن بعض لتتحد من ثم في مشهد متكامل يعطي حق الحدث التاريخي.
لكن ينبغي ألا ننسى أيضاً أنه حتى لو اجتمعت كل تلك العناصر الفنية التي يقودها المخرج مع فريقه لا تخرج بهذه الصورة إلاّ إذا تكاملت بقيادة أخرى هي “الممثل”، فالممثلون المبدعون المحترفون قد عملوا على معادلة كفة الميزان، ورأيناهم كيف أخذوا حقهم في الأداء بما توفر لهم، ومنحونا ما كان عليهم، فليس من السهولة على الممثلين تصوير الشخصية التاريخية التي تحتاج إلى بحث وقراءة، وليس المهم أن يستلم الممثل نصاً مكتوباً ويحفظه، بل أن يتعمق ويقرأ ويفكر كيف يؤديه ليصل إلى الصدق والإقناع. وليس من السهولة أن يصور الممثل في أماكن مختلفة جغرافياً وزمنياً في أيام وأسابيع وشهور تستغرقها مدة التصوير، ويرجع إلى ذلك المكان (بلقطة واحدة فقط).. هنا أتحدث عن الحرفية والاجتهاد في أداء الممثل (بالحفاظ على فعله الواحد في أدائه وتركيزه) في عمل ضخم كهذا العمل، وعليه في المحصلة أن يقف وقفة المسؤول في إيصال “روح الشخصية” التي يؤديها لتتحد أيضاً مع حجم ما موجود حوله من عناصر فنية يكون هو قائدها. وتكتمل الصورة التي شاهدناها، وليصبح مسلسل “عمر” مسلسلاً خالداً يوثق جزءاً مهما من تاريخ وحياة صحابي جليل وثاني الخلفاء الراشدين، وليكون إنتاجاً عربياً يتفوق على أعمال عالمية، وتُختصر به كل الأسئلة في جواب واحد هو النجاح والجرأة في الطرح، وفتح الأبواب لتقديم سيرٍ لشخصيات تاريخية مجيدة أخرى، ولكن بشرط أن تُقدَّم بمستوى وحجم ما قُدم، لا أن يستسهلها كل من تشوق لتقديم مثل هذه المواضيع، ذلك أن جميع من شاهد هذا المسلسل لن يقتنع بعد الآن بمشاهدة أعمال تدور حول شخصيات تاريخية عظيمة من دون أن تكون متكاملة ومتقنة وتتوفر فيها إمكانيات انتاجية كبيرة تليق بتلك الشخصيات..
أخيراً، لا بد من توجيه التحية لكل من شارك في هذا العمل، وأتمنى على قناتي mbc وقطر الاستمرار في إنتاج أعمال درامية رفيعة المستوى تحترم عقل المتلقي ووقته، وتبعده عن متابعة الأعمال الهابطة التي تنتجها بعض القنوات.
* مخرجة تلفزيونية عراقية