قبلَ سنوات، عرضتْ إحدى الفضائيات تقريراً عن عملية إرهابيّة نفّذها انتحاريون. في شهادتهم، قال الناجون إنّ الانتحاريين كانوا يكرّرون على مسامعهم جملة (نحن نحبُّ الموت كما تعشقون الحياة). جملةٌ قد تلخّص بإيجاز شديد مقدار استهانة المسلمين بحياتهم، قبل حياة الآخرين، ورغبتهم الشديدة في موتٍ أقلّ ألماً وعذاباً ورعباً من حياة لم تكن إلاّ سلسلة من الأحلام المقموعة والآمال المستلبة والأماني المحطّمة على صخرة واقع مرير.
قد يكون الانتحاريّ أنموذجاً شديد التطرّف والوضوح فيما يمكن أن يلجأ إليه مسلم، غير أنّ هناك أنماطاً أخرى تمارسها الأغلبية في سلوكها وعاداتها يمكن لها أن تفضي إلى الموت المشتهى. فنحن، مثلاً، ندخّن السكائر بإفراط وشراهة في كلّ مكان وزمان برغم علمنا أنّ كلّ شهقة من الدخان تقرّبنا خطوة من القبر وتفتك بصحة القريبين منّا.. لا نبالي إن كنّا مصابين بارتفاع ضغط الدمّ أو السكريّ حين نقبل على طعام. وبرغم نصائحَ تحاول ردعنا، نصرُّ على قيادة المركبات بأعلى سرعة فيها دون مبالاة بحياتنا أو حياة الآخرين.. مفاهيم مثل الأمن الشخصي وحفظ الذات تنزوي دائماً أمام طغيان رغبة الخلاص من عبءٍ ثقيل اسمه الحياة.
في كثيرٍ من العمليات الإرهابية التي شهدها العراق، دفع كثيرون حياتهم لأنهم أصرّوا على التجمهر قرب مكان حادث. تنفجرُ مفخخة فنهبُّ مسرعين نحوها متجاهلين ما خبرناه في حوادث مماثلة تؤكد أن مفخخة أخرى تنتظر تجمّعنا لتنفجر فينا. نسمع صوت رصاص فلا نحتمي منه، بل نعتلي أسطح المنازل فتصيبنا (طلقة تايهة). نستذكر الراحلين ولا يفوتنا الإحتفال بذكراهم كل عام وننسى غالباً الاحتفاء بتاريخ ولادة الحاضرين.
الرغبة، كما يرى جبران خليل جبران، هي نصف الحياة، أما عدم الاكتراث فنصف الموت. ويرى وليم جيمس أن الأكثر بؤساً هو امرؤ أصبح اللاقرار عادته الوحيدة. وبين ما يذهب إليه جبران وما يراه جيمس نقفُ محبطين يائسين من حياة ليست بنا أيّة رغبة فيها، ولا همّة لدفع حاضرها إلى غد أكثر دفئاً ونوراً. يجذبنا الموتُ إلى ظلامه، في حين يجذب ضوءُ الحياة الآخرين. وتغصُّ مجالس العزاء والمقابر بالمعزين والزائرين، وتعمر بالصراخ والعويل. نتلكأ عن تلبية الدعوة إلى الأعراس، وتصيبنا الأعياد بالملل.. يبدو أننا لا نصلح إلاّ للموت أو البكاء على الموتى مثلما لم تعد شفاهنا تصلح للابتسام!!
[email protected]