18 ديسمبر، 2024 9:45 م

تنامي مخاوف سلطة الخضراء من مرحلة ما بعد داعش

تنامي مخاوف سلطة الخضراء من مرحلة ما بعد داعش

مع إقتراب انتهاء معركة تحرير نينوى وأقضيتها من قبضة تنظيم داعش الإرهابي ، والذي لايزيد عناصره عن بضعة آلاف ، اعطى مُسوّغاً رخيصاً لتدمير ثاني اكبر محافظة في العراق ، يفوق سُكانها مليونيّ نسمة من الكِرامِ الأ ُباة ، يعيش مُعظم الناجين منهم في المعسكرات والخيّام وآخرون يفترشون الأرض مُلتحفين السماء ، تنفيذاً لإرادات دولية مُجرمة تقف على رأسها دولة ولاية الفقيه وتوابعها .
وفي غضون هذه الأجواء ، تدلُ المؤشرات على ان حكومة الإحتلال السادسة ، تواجه داخلياً المزيد من المشاكل المُستعصية التي بدأت بوادرها تطفو على السطح نتيجة للتخبُطِ في إدارة الدولة واتخاذ القرارات الإرتجالية الغير محسوبة العواقب . لاسيما في غضها الطرف عن جرائم المليشيات المسلحة وتصرفاتها العابثة في أمن وسلامة المجتمع ، وتأطيرها بإطارٍ قانوني وضع لها الحبل على الغارب ، لينقلب عليها وبالاً ، وما مشاهد الخطف والترهيب والإعدامات خارج القضاء التي تمارسها عناصر الحشد امام أنظار سلطة العبادي وبرلمانهُ إلا مثالاً ساطعاً على ذلك الوبال الساقط على رؤوس عناصر الحكومة ومؤسساتها ، التي اصبحت عاجزة عن تقديم التفسيرات والمبررات للمُرتَكبِ من الجُنحِ والجناياتِ على رؤوس الأشهاد .
إن سطوة المليشيات ومنتسبيها تعاظمت لتستهدف رأسيِّ الوزراء والبرلمان ، وافضل ما نستشهدُ به على سبيل الذكر لا الحصر ، ما حصل في قضاء المقدادية ( ديالى ) السنة الفائته ، انه مشهدٌ يُذَكِرُنا بمدى ضعف سلطة الدولة وهزالتُها ، فحسبُك التأمُل في قيام عصابات الحشد بمنع موكب رئيس البرلمان من دخول القضاء الذي فيه مسقطُ رأسهِ ، ليعود فاشلاً الى المنطقة الخضراء جاراً وراءهُ أذيال الخيبة والخزيّ ، لِيعقبهُ حيدر العبادي في نفس اليوم مُكرراً الزيارة للمدينة ذاتها ، وإذا بالمشهدِ يتكرر فينسحبُ هو الآخر تحت وطأة سلاحها وإستهتار عناصرها التي عاثت في المقدادية قتلاً ونهباً وفساداً ، ولم يُحسم الأمرُ إلا بعد تَدخُل قاسم سليماني ، فاتحاً لهما الطريق .
فلا تعجبنَ بعد ذلك ، إذ لا يستطيع اليوم رئيس السلطة ، وحتى بعد انتهاء العمليات المُرتقبة في القادم من الأيام ، أن يتبن قرار بحلِ تلك العصابات وترويضها إنسانياً لتندمج في الحياة المدنية ، لأسباب يصعب حصرها منها سايكولوجية واجتماعية واخرى تَعارضها مع الأجندة الإيرانية الساعية الى إقامت نظام حُكم أ ُحادي على اساس مذهبي وفق منهج خميني وخامنئي ، لذا فإن التسريبات الصادرة قبل اسابيع والأصوات الداعية الى جعل الحشد الشعبي بمثابة حرس ثوري له مؤسساته العسكرية والإدارية ” لم يأتِ من فراغ ” .
على صعيد آخر ونتيجة لإحتمال عودة الإحتلال العسكري الأمريكي عبر بوابة اخرى من البوابات المُشرعة امامه ، تقوم بعض الشخصيات السياسية المشاركة في السلطة وأخرى مناهضة لها كرجال الدين السُنة على وجه التحديد في مُطالبة جمهورها بعدم مقاومة الأمريكيين والإكتفاء بترقُب المشهد وما ستؤول اليه الأحداث .
وأذكر منهم على سبيل المثال الباحث الشيخ فاروق الظفيري ، إمام وخطيب مسجد الفلوجة سابقاً ، عبر وسائل الإعلام وصفحته الشخصية ، إعتقاداً منه في إحراج شيعة السلطة وإضعافها او ربما كسراً لهيبتها الفارغة وتبجح احزابها التي نصبها الأمريكان انفسهم في الحكم والذين صدّعوا رؤوسنا في إكذوبةٍ مفادها : انهم كانوا جزءًا من المُقاومة العراقية التي أجبرتها على الإنسحاب آواخر العام 2011 ، ويبدو ان هذا التدليس الصلف والإصرار على تزوير الحقائق لتأريخٍ قريب جداً ، لم تجف فيه دماء الشهداء المقاومين الحق من ابناء المحافظات الغربية وفروع عمائرها وعشائرها في حزام بغداد ومناطق اخرى ، ( يبدو) قد ترسخ في عقول الكثير ممن إستهوتهم هذه هذه اللعبة ، كأمنيةٍ حالمة أشبهُ بحلمِ العصافير الذي سُرعان ما تُبددهُ خيوط الفجر لضوءٍ ناصع يكشفُ ويُعري اولئك الدجالون الذين طالما رفضوا مُقاتلة الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم من القوى الغازية الغاشمة .
شخصياً مازلتُ أحتفظ ُ بمئات الوثائق والمقالات والتصريحات المطبوعة والمتلفزة والصوتية لقادة العملية السياسية ( الأمريكية ) وكُتابهم وأبواقهم كوثائق إدانة للتأريخ الذي لابد من ان يدلعَ لسانه يوماً مُعريّاً فاضحاً ليُفرق بين الحق والباطل الزهوق .
على الرغمِ من ان موضوع المقاومة العراقية الباسلة ومناهضة الإحتلال الأجنبي منذ 2003 شَكَلّتْ عنواناً عريضاً فيه من المروءة والشجاعة والإيثار بالنفسِ والمالِ والبنين ، قدمها ابناء محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى ونينوى وكركوك وبعض احياء بغداد إضافة الى عدد من الأقضية والنواحي المُحيطة بالعاصمة فقط ، ذلك العنوان المنسوب بجدارة وإعتبار لأبنائها واهلها .. اقولُ : اننا نحتاج الى ان نفرد لها مقالات خاصة تُليق بذلك الموقف الأصيل وتقطع الألسُن الجبانة التي تُريد سرقة جهودها وتضحياتها وتجاهُل الدماء الطاهرة المُراقة على أديمِ الوطن ، لاسيما وان أكاذيب قيس الخزعلي وقاسم الأعرجي ومقتدى الصدر وأتباعهم ، قد أزكمت الأنوف .
ثُمّ كيف لهؤلاء وزبانيّتهم ان يُقاتلوا ويجاهدوا ، وهُم من قالوا عن المجرم جورج بوش الصغير (( رضي الله عنه خلصنا من صدام )) ؟!
والأهم من هذا وذاك إن مراجعهم العظِام المُحاطون بهالةٍ من التبجيلِ والتعظيم لم يُجيزوا لهم الجهاد الدفعي ، والأنكى منه ذهب مرجعهم الأعلى السيد علي السستاني ، ليُعيد ويُجدد فتواهُ السابقة مع بدء العدوان على العراق قبل أربعة عشرة سنة قائلاً : ” لايجوز الجهاد في زمن الغيبة ” أي بمعنى انهُ نسفَ وعَطّلَ اسمى معاني الشرف والعزة والرفعة ، تلك المُتمثلة بالدفاع عن الوطن والذب عن الأرض والعِرض .
ربما يقول البعض : ماذا عن المعركة التي خاضها التيار الصدري لثلاثة ايام في النجف خلال العام 2004 ؟!
وهنا اقول ايضا ً وبحوزتي ما يكفي من الوثائق : ان تلك المعركة حصلت على خلفيّة إغلاق حكومة أياد علاوي ، لصحيفة ( الحوزة ) الناطقة باسم مقتدى ، الأمر الذي دفع عناصرهُ للتشاجر مع ما يُسمى وقتها ( الحرس الوطني ) ، تطور بعده ليتدخل الأمريكييون ، وللتأريخ ايضاً تدافعَ المئاتُ من ابناء محافظة الأنبار وقريناتها الغربية لمساعدة التيار الصدري وخوضِ المعركة معهم ، لتنتهي أخيراً مُتَوّجة ً بطعناتٍ غادرةٍ في ظهورِ من جاءوا لمُناصرتهم بعد تراجُعِهِ وأزلامهِ وانسحابهم من ساحاتها مُسلّمينَ اسلحتهم للأمريكيين مقابل حفنة من الدولارات .
والحديثُ هنا كما أسلفت يحتاج الى إسهاب وتَشَعُبٍ للتعريج على محاور كثيرة لها وقتها في العرضِ والتفصيل .
في خِضم ذلك يذهب البعض في تثقيف الجماهير الغاضبة والمغلوبة على أمرها ، تثقيفاً خاطئاً ساذجاً ، ولاشك انه مُريب في ذات الوقت ، مُدعيّاً : ان المرحلة القادمة ستشهدُ صراع او إقتتال داخلي بين مليشيات الحشد واحزابها في تهافت وتكالب على السُلطة ، وبالتالي يُطالب العراقييون ايضاً بالوقوف موقف المُتفرج والمشاهد وانهم اخيراً سيجنون ثمار ذلك الصراع لإنعكاسه إيجاباً عليهم .
ان هذا الطرح الخطير سيؤدي الى شل قدرة الجماهير ويضعها موضِع الأدوات الصماء بإنتظار الخلاص المُرتقب وفق تلك الرؤى الفاشلة .
معروف ان الأفراد والجماعات المسلحة التي تُمثل الأجنحة العسكرية لأحزاب السلطة قد جرى توحيدها وهيكلتها بفتوى طائفية أصدرها السيد علي السستاني في تموز 2014 ، بحجة محاربة الإرهاب ، ناهيكم عن إجازتها الحكومية وشرعنتها بقانون في تشرين الثاني 2016 ، واعتبارها جزء من الأجهزة الأمنية الخاضعة بأوامرها لقائد القوات المسلحة وإن كان خضوعاً شكليّاً .
ذلك يعني فقدان إحتمالية إقتتالها مع بعضها ، ومن منا لايتذكر تدخُل مرجعية قُم والنجف في إخمادِ المناوشات التي لم تستغرق سوى ساعات بين عناصر مُقتدى وفيلق بدر خلال العام 2005 ، حين حصل حرقٌ مُتبادل للمقرات ، ألم يتلق الصدر وقتها إيعاز من مرجعهِ كاظم الحائري ، بالوقفِ الفوري وتمرير الإعتداء على أزلامه ؟! ، وفي المقابل إستجاب الحكيم لفتاوى اليعقوبي والسستاني وأخمَدَ النيران ! .
إذن لامجال للتعويل على تلك الآمال وإن كان رَجَحان تحقيقها كبيرا ً ، فمرجعياتها الصفوية لن تسمحَ لها بالإنزلاق في تلك الحرب المُرتقبة .
لأننا امام مخطط كبير تقودهُ وتُشرف عليه دولة ماكرة خبيثة ، تُجيد اللعب على الحبال والعزف على أوتار الدين والمذهب ، مُتمثلة بالخُبث الفارسي الحاقد على العروبة والإسلام معاً في تداخُلٍ وترابُط يَعزُ فصله .
عليه فإن الواقع يفرض على القوى الوطنية المناهضة للإحتلال وبكافة إتجاهاتها وميولها ان تُسارع للأخذ بيد جماهيرها وتعبئتها تعبئة فكرية في رفع معنوياتها ومساعدتها لِنفضِ الغبار الذي نُثِر عليها ولَبَدَ سمائها نتيجة وقوعها بين سندان التنظيمات الإرهابية ومطرقة مليشيات الحشد التي لاتقل جُرماً وإرهاباً عن داعش ، والإستعداد لمواجهة المرحلة الآتية بعزم وصلابة ، دون الإنتظار السلبي .
ومن هنا ايضا لابد من التذكير بضرورة مد الجسور مع ابناء محافظات الفرات الأوسط والجنوب ، وطمر الفجوات التي صنعتها وعَمقتها الاحزاب الدينية من خلال مشايخها وملاليها المنفذين لسياساتها .
انني اجدُ متواضعا ً : السكوت وعدم الإعتراف بوجود إحتقان طائفي ومذهبي بين ابناء شعبنا الواحد ، حالة من حالات التغابي والتعميّة والتضليل الخطيرة ، وعملية تجاهلها وتغافلها دون مُصارحة ستوّلِدُ كوارث اكبر على المنظور البعيد وربما القريب ، وستجعل الناكرون لها في موقف لايُحسدون عليه ، وكأنيّ بهم كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال وهي مكشوفة للناظرين .
إن إعادة اللحمة الشعبية وكسب تأييد مكونات المجتمع العراقي لاتقل اهمية عن التسلح بسلاح المعركة وإعداد مُستلزماتها مادياً ومعنوياً ، وتلك العودة تتطلب التحرك السريع على شيوخ العشائر ووجهائها الأصليين وليس الطارئين ، فهُم مازالوا انقياء اصفياء ( ضميراً وسلوكاً ) ولم يتلوث الكثير منهم بإفرازات المرحلة الراهنة ، وهُم وابناؤهم جديرون بتحمل عبء المسؤولية وتبصير وتنوير الجهلة والأميين ، ناهيكم عن ان محافظات الجنوب والوسط عانت كثيراً من تسلُط الأحزاب الدينية وسئمت من ممارساتهم المنحرفة ووعود قيادتهم الكاذبة واستشراء حالات الفساد الإداري والمالي الذي انعكس بدوره على تدني المستوى الخدمي والصحي والتعليمي فيها ، وسط شيوع الفقر المدقع وتراجع وانعدام القوة الشرائية على مستوى الأفراد ، في الوقت الذي ينعمُ فيه رجال الدين المُتنفذين وجلاوزة السلطة بالرفاه الباذخ والغنى الفاحش نجد ان الطبقة الوسطى قد إنعدمت وتلاشت ، مما خلقَ فارقاً طبقياً غير مسبوقاً في العراق .
اخيراً ومع تنامي مخاوف سلطة المنطقة الخضراء من السخط الشعبي ومظاهر التحدي القادم لها وخشيتها من انفجاره ، نلاحظ هذه الفترة ايضاً تذبذب قراراتها وعلاقاتها مع الدول العربية والتخبط في مواقفها السياسية الخارجية ، فتارة تُدين قَطر واخرى تُهاجم البحرين والسعودية ، لتعود مُتراجعة عن ما صدر عنها ، ويزور العبادي العربية السعودية مُعلناً وقوفهِ الى جانبها ، مشيداً في حِكمتها .
امام هذه المؤشرات وتلك المعطيات التي أدخلت الوضع في البلاد طوراً جديداً من التأزم والإحتقان جراء عدم الإكتراث بمعاناة الجماهير وما تتعرض له من دمار بفعل نهجها الدموي واجراءاتها التعسفية في إفقار المواطنين وتجويعهم وتعريضهم للموت البطيء المُهين ، نحتاج الى تحرك سريع ولملمة الصفوف وزيادة عديد النشاطات وتوسيع المشاركات ، مع مناشدت الرأي العام العربي والدولي للمناصرة وتقريب ساعة الخلاص من السلطة الغاشمة وبطشها وإرهابها .