” قال علي بن أبي طالب: رسولك ترجمان عقلك”.( ربيع الأبرار2/424).
من بديهيات العمل في وزارة الخارجية أن يكون وزيرها المرآة البلد العاكسة لسياسة البلد أمام الدول الأخرى، ولأن معظم أعمال وزارته خارج حدود بلده عبر السفارات والقنصليات المعتمدة في الخارج، فأن عملية إختياره كوزير للخارجية تحتاج الى مواصفات مهمة لا يتطلبها إختيار بقية الوزراء من أقرانه. وهذا الأمر لم تبتدعة الدبلوماسية الحديثة، بل يرجع الى تقاليد معتمدة منذ فجر التأريخ. على سبيل المثال كان إختيار السفراء أو ما يسمى يالرسل أو المبعوثين او الموفدين يتم وفق مواصفات محددة، وهذا ما نشهده في مواصفات الرسل من الصحابة الذين بعثهم النبي محمد(ص) الى كسرى الفرس وقيصر الروم ونجاشي الحبشة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إذا أبردتم إليّ بريداً، أو بعثتم رسولا، فليكن حسن الوجه، حسن الاسم، وإذا سألتم الحوائج فاسألوا حسان الوجوه”. وقال الابشيهي” إذا أرسلتم رسولا في حاجة، فاتخذوه حسن الوجه حسن الاسم”. وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني لا تبعث رسولا جاهلا! فإن لم تجد حكيما عارفا، فكن رسول نفسك”. وقال يحي بن خالد: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاب يدل على مقدار عقل كاتبه، والرسول على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار عقل مهديها”. وأنشد صالح بن عبد القدوس:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً … فأرسل حكيماً ولا توصه
كما ذكر ابن الأنباري عن ثعلب، عن ابن الأعرابي: الرَّسول والرَّسيل والرّسالة سواء”. ومن الأقوال العربية المأثورة” الرسول قطعة من المرسل”. كما وضِعت تقاليد معينة تحدد صفات الرسل عند إيفادهم من حيث الذكاء والمنطق وقوة الحجة والأمانة ومعرفة لغة المرسل اليه أو حنكة ومهارة الترجمان الذي يصحبة، علاوة على التحلي بالهدوء وفن التفاوض وتجنب الغضب والإنفعال، كما ان الرسول يتمتع بصفات جسدية كالوسامة والإناقة والرشاقة والإسم المقبول والوجه الحسن، وهناك الكثير من الوصايا التي تخص عمل الرسل او المبعوثين، منها ما قال الشاعر:
إذا أبطأ الرسول فقل نجاح … ولا تفرح إذا عجل الرسول
نحن نتحدث هنا بالطبع عن الدبلوماسية قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، لكن التقاليد والأعراف الدبلوماسية لم تتغير إلا بشكل طفيف، فقد نظمت العلاقات بين الدول بإتفاقيات دولية وهو ما يُطلق عليها إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، علاوة على الإتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف. من خلال هذه المواصفات التي لا تتوفر عند جميع الناس يتم إختيار وزير الخارجية بدقة متناهية. لو ألقيت نظرة خاطفة على السفراء ستجد ان الكثير منهم يحمل مثل هذه المواصات كلها او بعض منها على أقل تقدير، ولكن الحالة النادرة في التأريخ الدبلوماسي تجدها في العراق، حيث تم إختيار وزير خارجية يفتقر الى جميع هذه المواصفات، والأنكى منه أنه مهووس، وكأن الشياطين والمردة تتجول في ذاكرته وتتحدث نيابة عنه.
مع كل الإحراجات التي سببها إبراهيم الجعفري للعراق، فأنه ما يزال محتفظا بمنصبه، صخرة كؤود في طريق المسيرة الدبلوماسية العراقية، لا يستطيع أحد أن يتقرب منها أو أن يزحزحها من مكانها غير المناسب، هذه الصخرة أشد صلابة وقوة من الحجر الأسود الذي أختطفه أجداد الوزير من القرامطة وأعيد الى مكانه بعد عقود من الزمان. أما من أين أتت هذه الصلابة المقرفة؟ فهذا ما يحدثنا عنه رئيس البرلمان العراقي، والتحالف الشيعي وغيرهم من سقط المتاع، ممن اعتبروا الجعفري رمزا معصوما. مع أن الجعفري متهم بعشرات الملفات الفاسدة في مقدمتها تعيين اقربائه في الخارجية واستلامه (60) مليون دولار عن مخصصات ايفاداته الخارجية غير المبررة في معظمها، والتي تُحول عبر لبنان الى عائلته في لندن، وما خفي كان أعظم.
يمر العراق العراق بمرحلة خطيرة في تأريخه، لا يعلم غير الله كيف ستكون نتائجها، منها الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وإفتقاد الأمن تماما في الداخل، وتدهور العلاقات مع الدول العربية والمجاورة بسبب إنحراف بوصلة الخارجية العراقية مع الأجندة الإيرانية، علاوة على إفلاس الخزينة والديون الهائلة التي ستدفعها الأجيال القادمة بدون ذنب نتيجة فساد الطغمة الحاكمة، والفساد الحكومي والبرلماني المستشري في كل المقدرات الوطنية، والفقر والبطالة والجوع وإنتشار الأمية والمخدرات وحالات الطلاق والروح الطائفية والرشاوي والتزوير، ومشكلة النازحين والمهجرين الذين ترفض الميليشيات المسلحة عودتها الا بعد أن يعطي الوليه الفقيه الضوء الأخضر كما أكد نائب رئيس الجمهورية أياد علاوي، علاوة على العشرات من المشاكل الداخلية والخارجية. كل هذه الأحوال السيئة تعني ان العراق بحاجة الى وزير خارجية خبير ومحنك ويعرف أكثر من لغة أجنبية ويمكنه التعامل مع كل هذه المؤشرات الخطيرة مع العالم الخارجية، ويكون معه مستشارين أكفاء وخبراء في العلاقات والسياسة الدولية، وليس طبيب بيطري ومضمد ومهندس نفط ومهندس زراعة وتكنلوجيا وصيدلي، كما هو الحال في الوزارة حاليا. بل على أقل تقدير أن يكون الوزير عاقل وليس مهووس إن عز الطلب.
طالبت الهيئة القيادية للتحالف الوطني في 8/3/2013 في بيان لمكتب رئيس التحالف عمار الحكيم ، دعى الى عدم استجواب ابراهيم الجعفري وعلاء الموسوي رئيس الوقف الشيعي لانهما من ” الرموز المقدسة” على تعبير التحالف الشيعي. كما رفض رئيس مجلس النواب سليم الجبوري بتأريخ 13/3/2017 استجواب ابراهيم الجعفري والاكتفاء باجابات وزارة الخارجية على اسئلة استجواب وزيرها بشكل تحريري، مشيرا إلى أن الحاجة إنتفت لحضور الأخير إلى البرلمان. ولاداعِ لحضور الجعفري الى البرلمان لانه” رمز وطني مقدس”. لاحظ ان الجبوري وهو من أكبر جحوش أهل السنة، يردد كالببغاء ما يقوله أسياده من شيعة السلطة.
الحقيقة ان عصمة الرمز الجعفري من قبل أتباعه كرئيس البرلمان والتحالف الشيعي إنما هو توجيه وليس إرادة ذاتية أو محلية، انه توجيه صارم صدر اليهما من قبل الولي الفقيه التي وجدت في الجعفري ووزارته الملغمة بمفخخات الجهل والإختصاصات المثيرة للسخرية أفضل كبش فداء للدفاع عن مصالحها في المحافل العربية والأجنبية، فهي الحصن الحصين لستر أطماعها في المنطقة، والتغطية على العمليات الإرهابية التي يقوم بها اتباعها هنا وهناك. حتى يمكن الجزم بأن وزير الخارجية هو (إبراهيم عراقجي). وهذا ما صرح به المتحدث باسم لجنة النزاهة النيابية عادل نوري في 23/4/2107 بقوله أن” سبب تريثه في ملف استجواب وزير الخارجية إبراهيم الجعفري يعود الى ضغوط أحاطت بالاستجواب، وإن هناك استجواباً تقدمنا به في وقت سابق تضمن ملفات لدينا ضد وزير الخارجية إبراهيم الجعفري، لكني قمت بسحب الطلب من رئاسة البرلمان قبل فترة، بسبب تحركات ايرانية حصلت في وقت تقديم الطلب لنسِف أرضية الاستجواب”.
من جهته أثنى مساعد الخارجية الايرانية للشؤون القانونية والدولية (عباس عراقجي) بتأريخ 2/3/2017 على مواقف العراق المعارض للقرارات الدولية والعربية المناهضة لطهران، وذلك خلال لقائه بوزير الخارجية إبراهيم الجعفري على هامش مشاركته في الاجتماع رفيع المستوي لمجلس حقوق الانسان في جنیف، اذ أشاد عراقجي إيران بعراقجي العراق في معارضة القرارات المناهضة لايران الصادرة في الجمعية العامة ومجلس الأمن. مؤكدا ان العراق” سيواصل معارضته للتحركات السیاسیة في مجال حقوق الانسان المناهضة لایران”. وهذا ما يجري بالفعل بعد أن ابتعد العراق عن حاضنه العربي، ونام في أحضان ولاية الفقيه.
ويبدو ان الدفاع عن المصالح الإيرانية في المنطقة هو الهاجس الوحيد لوزارة الجعفري، فقد ذكر لنا أحد المسؤولين في الوزارة بأن الدائرة الشغالة في الوزارة هي دائرة الدول المجاورة (قسم تركيا) فقط، والدائرة العربية ايضا، لإفشال أي خطة او مقترح عربي يدين النظام الإيراني سواء في الجامعة العربية او غيرها، والتربص والرد السريع على ما يزعج الولي الفقيه. أما بقية الدوائر فهي أشبه ما تكون بدكاكين كاسدة لا عمل لها. وهذا ما يمكن إستنتاجه بسهوله، ففي الإسبوع الماضي إستدعت وزارة الرمز الدعوجي السفير التركي في العراق وسلمته مذكرة إحتجاج بسبب تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في مقابلته مع قناة الجزيرة القطرية في في 19/4/2017 التي جاء فيها” ان الايرانيين لديهم حساباتهم بخصوص سوريا العراق واليمن ولبنان. يريدون ان يتغلغلوا في هذه المناطق من أجل تشكيل قوة فارسية في المنطقة. هذا أمر له مغزى، علينا ان نفكر فيه جيدا. كما ان إيران تنتهج سياسة انتشار وتوسع فارسية وأصبحت تؤلمنا في العراق. مثلا، من هؤلاء الحشد الشعبي ومن الذي يدعمهم؟ البرلمان العراقي يؤيد الحشد الشعبي ولكن هم منظمة إرهابية بصراحة ويجب النظر إلى من يقف وراءها”.
المثير في الأمر ان الوزارة بلعت على الريق وبدون ماء ما قاله القيادي في حزب العمال الكردستاني (كاوة شيخ موس) في تصريح صحفي في 25/4/2017 إن ” الهجمات التركية التي استهدفت مدينة سنجار والمناطق التابعة كانت مخطط لها منذ مدة وأن تلك الضربات تمثل إهانة للعراق وانتهاك لسيادته. كما ان حزب العمال الكردستاني جزءا من الحشد الشعبي بأمر من ايران”. طالما ان حزب العمال الكردي جزءا من الحشد الشعبي، وان هذا الحزب مصنف كإرهابي، وكذلك حزب الله العراقي، الا يعني هذا ان الرئيس التركي قال حقا عن تبعية الحشد ووصفه؟ ثم لم السكوت عن رفع عناصرحزب العمال علمهم في شمال كركوك (منطقة رحيم آوى) بتأريخ 7/5/2017 مع ان الحزب مصنف كحزب إرهابي؟ اليس هذا التصرف الصلف يمثل إستفزازا عراقيا لتركيا؟
الحقيقة ان الرئيس التركي لم يفتح بابا مقفلا، لأن أهداف ايران معلنة، وليست مخفية، ويمكن الرجوع الى تصريحات المسؤولين الإيرانيين لأثبات ما قاله الرئيس التركي، كما أنه لا أحد يجهل بأن ميليشيا الحشد تأسيسا وتمويلا وأجندة مرتبط بنظام الملالي، بإعتراف زعماء الحشد أنفسهم. فقد أكد نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في 21/4/2017 ا أن” الحشد الشعبي جزء اساسي من قوات القدس الايرانية، وأن الاتفاق مع القائد العام للقوات المسلحة خلال زياراته الروتينية لمنطقة العمليات، ومنها زيارة مقر الحشد على الخطوات القادمة لعمليات الحشد، فالحدود السورية اصبحت تحت سيطرتنا وستدخل القوات الايرانية وقواتنا الى العمق السوري”.
وهذا ما صرح به أركان نظام الملالي أيضا. فقد عبر رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية في مجمع تشخيص مصلحة النظام (علي اكبر ولايتي) في 23/4/2017 عن ارتياح نظامه لحكومة العبادي واصفا الحشد الشعبي بأنه ” أهم العوامل في إمكانية مواجهة مؤامرة الأعداء، ضد ايران والعراق معا”. وأضاف” نظرا لمؤامرة الأعداء في إثارة التفرقة بهدف إضعاف الدور الايراني في المنطقة من خلال الإرهاب والتنظيمات المتطرفة والتكفيرية، فإن تقوية الحشد الشعبي أمر هام لاستمرار حماية الامن الايراني ومشروعها في المنطقة”. ركز على العبارة الأخيرة!
كما أكد رئيس هيئة الاركان العامة للقوات المسلحة الايرانية اللواء محمد باقري بتأريخ 23/4/2017 في رسالة وجهها بمناسبة الذكرى السنوية لتاسيس حرس الثورة الاسلامية ” ان الحرس الثوري بمواكبة المقاومة الاسلامية في العراق اصبح درعا أمنيا للشعب الايراني خاصة بعد اقرار قانون الحشد الشعبي، ان المقومة الاسلامية في العراق قد جعلت نفسها درعا أمنيا للشعب الايراني، بل للامة الاسلامية. وان الحرس الثوري تمكن من جعل قوة الردع و القدرات الدفاعية للجمهورية الاسلامية الايرانية تتجاوز حدود ايران الجغرافية”. (وكالة تسنيم الدولية للانباء23/4/2017). فما الجديد يا وزارة خارجية حزب الدعوة الذي أتى به الرئيس التركي وأثار حفيظة الرمز؟
ذكر ابن الجوزي الحديث النبوي الشريف” لَا وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، لَا وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ. قَالَهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. قالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: شَرُّهُ”.