لم أجد أصدق متحدث من الحمار الذي جلبه جاري من بلاد الآهتين , وإعتنى به أحسن ما يُعتنى بحمار في تأريخ البشرية , فهو يتلقى العناية التامة أفضل من ملايين البشر المرهونة بالقهر والظلم والحرمان في بلدان النفط الأسود.
حمار يتعالى نهيقه كلما خرجت في باحة الدار وكأنه يشم رائحتي , فيتذكر أيامه القاسيات قبل أن يتمتع بسفرة جميلة إلى قارة لم يعهدها أجداده.
هذا الحمار الذي أسميه جاري الأنيس , تعود على مشاهدتي , وآمن شري , فما عاد يفهم كلمة “هوش” أو “دي” , وإنما تعلم لغة أجنبية , وإرتدى حلة زاهية كنا نسميها “إجلال” واليوم تسمى ثيابا ذات ألوان وملمس قطني ناعم يحافظ على جلده من الحشرات ويمنحه الدفئ والجمال.
وتعودت أيضا على محاورته عما يجري في الواقع الذي كان يعيش فيه , متصورا بأنه يحمل ذاكرة جينية عريقة تساهم في تنوير قدراته التحليلية والمعرفية , وأظنه أدرى من البشر الحيران.
ومن محاوراتي معه هذه المحاورة.
بعد أن سمعته ينهق بلا إنقطاع إقتربت منه وإستاذنت بالكلام وطمأنته رغم إحساسه بأني من بلاد أصله , لكني ما عدت أتعامل معه كما يتعامل معه قومي , فأنا أحترمه طائعا أو مرغما , لأن أي تصرف مخل بمزاج الحمار سيعرضني للمساءلة القانونية وربما للعقوبة.
قلت: مساء الخير يا “أبو صابر”
فحدجني غاضبا , وأشاح الطرف عني , وإستدار فواجهني بمؤخرته , وحسبته قد تأهب “للصك” , أي الضرب بإحدى أو كلا قوائمه الخلفية , فإبتعدت عنه , ورجوته أن لا يكون غاضبا مني , فأنا جئت أطلب الإستشارة والتنوير.
قال: أتطلبها مني وأنت من القوم الذين لا يحترمونني , ويكنون كل غبي بإسمي؟!!
قلت: نعم , فالإستحمار قد ساد وصار أعمامك وأخوالك وأخوتك يتحكمون بمصير البلاد والعباد.
حملق الحمار بوجهي وتجمد في مكانه , ونهق بغتة , وهز رأسه وأدار أذنيه , وقال: هل تبادلنا الأدوار؟!!
قلت: هذا ما أرى!!
قال: وماذا تريد؟
قلت: الموعظة!!
قال: تريدني أن أعظك يا….!!
قلت: نعم!!
قال: إسأل؟
قلت: ما يجري في البلاد لا يمكن معرفته سواك , فأنت القابض على مصير الدنيا العربية , فهل تخبرني بما يدور؟
قال بعد نهيق خفيف: الويل لكم من أنفسكم؟
قلت: وما هي أنفسنا؟
قال: الشرور المتحركة في واقعكم والتي تستثمر فيها آفات السوء والبغضاء وحيتان المصالح والتطلعات الهوجاء.
قلت:وكيف يكون ذلك؟
قال: واقعكم يتكلم , وأحوالكم تتجهم , وقوتكم تسعى ضدكم , فأنتم تتقهرون وتندحرون بقوتكم الموجهة إلى نحوركم , فأنتم تصوبون فوهات البنادق إلى صدوركم , وتستدعون أعداءكم لتوجيه بنادقهم إلى رؤوسكم , فلا تحيصون ولا تفيصون , وإنما تتردون كالجراد في خنادق الهلاك والغياب الفظيع.
قلت: وكيف رأيت ذلك؟
قال: ألا ترى ما جرى ويجري عندكم , لقد أوجدوا حيوانات مفترسة من بين ظهرانيتكم , تحمل رايات قوتكم ومعاني هويتكم وروح رسالتكم , وتمرغ كل ما يمت بصلة إليكم في الدماء والدمار والخراب , وتسعى إلى تطهير بلدانكم من الجوامع والصوامع , حتى ليتحقق الإلغاء المطلق لوجودكم والمحق التام لتأريخكم.
فما عندكم من شواهد ومعالم صارت على خط العد التنازلي وستحين لحظة تفجيرها في موعدها المرسوم.
قلت: تعني أن ما يحصل موجه نحو تغييب الوجود العربي وما يشير إلى دور العرب في التأريخ؟
قال: نعم , وستتواكب النوائب التدميرية عليكم وفقا لبرامج مدروسة بدقة تهدف للوصول إلى قلب مقدساتكم ورموز معتقداتكم , وهذا ما يفسر إستهداف المعالم الدينية من جوامع ومساجد ومراقد ومعالم آثارية في مرابعكم.
وأضاف مرتعدا: ولا اظن هذا القرن سينتهي , إلا وقد أصيبت جميع أماكن عباداتكم بدمار شامل , سيصل هذا الدمار إلى مكة والمدينة , وسيباد ما فيها ويُمحق , بهذه القدرات التفجيرية الهائلة التي ما عهدتها البشرية.
فأنتم في منزلق الإنقراض وأنتم لا تشعرون ولا تتيقظون , بل أن الآلاف منكم مستعدون للقيام بالواجب التدميري للذات والموضوع بعنف غير مسبوق وطاقات إنتحارية لا مثيل لها في التاريخ.
قلت: لقد أرعبتني!!
قال: إنك كقومك في غياهب النكران والأوهام , وما رأيتَ شيئا بعد , فالرعب المنتظر وخيم ورهيب , ستساهم بصناعته , أمهات القنابل وآبائها وأجدادها , النووية والهيدروجينة وما بعدها وقبلها , وأن الأرض العربية ستحال هباءً منثورا , وسيملكها الذين يسعون إلى ذلك منذ عصور وأنتم الغفاة المنومون السكارى بالأضاليل والبهتان السقيم.
قلت: الويل لنا من كلامك!!
قال: أنتم تتظلمون وتتباكون وتلطمون , ولا قدرة عندكم سوى ذرف الدموع والإمعان بالذل والهوان والعناء , وتحسبون ذلك عبادة وبطاقة دخول لجنان عدن التي تحلمون بها وما أنتم بموقنين.
قلت: اللعنة عليك , فأنت تنتقم من قومك , وتهينهم , لأنك اليوم في مقام رفيع , وحرز أمين.
قال: تبا لك , أنت كقومك المبلسين!!
قلت: بل أنك حاقد لئيم!!
قال:إغرب عني , لقد سألتني وأجبت , فلماذا تكون من المعتدين؟!!
قلت: أيها الحمار السجين , أنت عدو مبين!!
قال ناهقا وقد إهتاج وغضب: أنتم السجناء والمعتدون على جوهر ما فيكم , والحافرون لقبورهم بايديهم , وأن فناءكم لقريب!!
قلت: يا ناكر أصله!!
قال: فعد إلى أصلك إن كنت من الصادقين؟!!
إحترت في الجواب , وحسبت الحمار قد أفحمني , ورأيت أنه يستحق أن يكون سيد قومي أجمعين!!
نهق الحمار بأنغام جديدة , ومضى صدى النهيق يتردد في خيالي , ولا أعرف كيف أفك رموز نهيقٍ مُدين , فأنا عاجز مثل قومي الذين ما تمكنوا من فك رموز لغات أجدادهم , فتمكن منها الغرباء وأدلوهم على ما كانوا عليه في أقدم العصور.
ودّعتُ الحمار وعواصف المخاوف تحوم وأعاصير الإتلاف الحضاري تصول , وصورة بلداننا ركام خرائب تمتد أمام ناظري من المحيط إلى الخليج , وكأن الوجود قد تحول إلى غبار ودخان , وما عاد هناك متسع للكلام.