من قبل أن أبدأ بكتابة هذه الأسطر، أعلم انها ستثير ضدي كثيرا من التخرصات والتهم الجاهزة، وأعلم أني ربما سأخسر بسببها بعض من يدعون أصدقاء.. ولكن لكي نشعر بطعم الحرية، ونستحقها، يجب أولاً أن نتفوق على الرقيب الذي زُرع بداخلنا وتوارثناه جيلاً بعد جيل … وأن نكتب ما نؤمن به لا ما نظن أنه يرضي الآخرين.
لقد راجت في الأيام القليلة الماضية ظاهرة أعدها غريبة – خصوصاً بعد عام 2003 – واعني بها موجة التهريج الذي ملأ صفحات بعض مشتركي الفيسبوك، وبعض الفضائيات التي لم تثبت إلى اليوم انها تحترم عقل المواطن العراقي وإدراكه، هذا التهريج الضجيجي الملوث للبصر والسمع والعقل الذي تمظهر في شكل تهاني، ومعايداتٍ، واحتفالاتٍ، بـ ( يوم النصر العظيم، يوم النصر والسلام، يوم انتصار العرب على العجم، يوم انتصاف الاسلام من المجوس، …… الخ الخ) اعادني الى الواقع مرة أخرى بعد ان شردت بي أحلامي قليلاً لأفتح عيني على نوع عجيب من التوظيف القذر للجريمة، في محاولة لإقناع الضحايا بأنهم هم المجرمون، محاولة لنفخ الروح في قربة أمجاد وهمية ترنم بها النظام الديكتاتوري السابق ممجداً ومبرراً لكل ما جناه وارتكبه بحق شعب العراق المظلوم ( المظلوم هنا صفة تعود على كل من الشعب والعراق ) فكثير منا يتذكر – طبعاً ليس أيتام المهرج القذر ولا أطفال الفيسبوك – كيف أن الوطن اختزل في الحزب الأوحد ومجلس قيادة ثورته، ليُختزل مرة أخرى في شخص القائد الضرورة الذي إذا قال.. قال العراق، هذا الاختزال الذي أدى إلى كل الكوارث اللاحقة التي حلت بهذا البلد.
إن الغرابة في هذا التهريج هي أن يختلف عاقلان – فضلاً عن عراقييَن – حول إجرام صدام الأرعن، ولسنا من الغباء بحيث لا نستطيع أن نلاحظ إن كثيراً ممن مارسوا هذا الضجيج حاولوا أن يطرحوا الفكرة ويسوقوها بصورة طائفية، في إشارات إلى أن المهزوم في هذا الحرب حسب زعمهم لم يكن بلدا آخر فقط، وإنما كل الطائفة أو المذهب الذي حُسب عليه نظام هذا البلد أمام انتصار (القيادة الحكيمة) و ( جيشها المقدام ) وما تمثله من قيم ومباديء الأمة العربية الواحدة وسور بوابتها الشرقية، ولست هنا بصدد الدفاع عن أي طرف من طرفي المعادلة لأني موقن يقيناً تاماً إن حرب السنوات الثمان أوقعت الناس بين همجية ديكتاتورية بدوية رعناء، وتعجرف عنجهية قومية شوفينية، ولم يكن في هذه الحرب اعتبار لدين او احترام لمقدس، والأنكى والأمرّ أن لا غالب فيها – مهما تعددت الادعاءات من أطرافها – تلك الحرب لم يكن فيها سوى الخاسرون… وأكبر الخاسرين هم الشعوب التي دفعت ثمن هذا التهور والحماقة من قياداتها، وبالتأكيد لست مؤيداً لما صرح به احد ساسة العراق الجديد قبل أعوام من وجوب دفع التعويضات إلى إيران مقابل ما لحقها من أضرار جرّاء الحرب، ولكني في الوقت نفسه لم أرّ أثراً للانتصار المزعوم ولا أستطيع أن أمتنع من تذكير مدعي ( النصر والسلام ) بان ( البطل أبو هدلة ) أشعل فتيل هذه الحرب عندما مزق وألغى من طرف واحد اتفاقية الجزائر التي وقعها هو بنفسه مع شاه إيران الأخير في العام 1975 حينما لم يكن ( بطلاً ) ولم يكن لديه
( هدلة ) بعد، وإنه نفسه من رضخ وعاد إلى بنود هذه الاتفاقية بعد ثماني سنوات من حرب ضروس انتصرنا فيها بتقديم مليون قتيلٍ، وإيجاد مئات الآلاف من الأرامل واليتامى والمحطمين، وعشرات الالاف من الأسرى والمعاقين والمفقودين ( وبالمناسبة لا اعرف كيف فُقد المفقودون، فهل سقطوا من جيب أحدهم؟ أم نُشلوا منه في سوق الغزل؟ أم تاهوا من أمهاتهم أثناء الزيارة؟ القائد الضرورة وحده يعلم!!!) وكأن هذه المأساة بحد ذاتها ليست كافية فقد استنزفت هذه الحرب مقدرات البلد وإمكانياته الاقتصادية والتنموية والبشرية، وخرج منها مثقلاً بالبساطيل – أقصد بديون البساطيل والأسلحة والتجهيزات العسكرية – والتضخم المالي والعجز في الموازنات، وبجيشٍ من العاطلين عن العمل الذين لم يكن لهم من حرفة طوال سنوات الحرب غير الالتحاق المتكرر، يائسين من رؤية الأهل مرة أخرى .. وفي كل إجازة جديدة يكتب لهم عمر جديد، حتى فاقوا القطط في عدد الأرواح … ولكن – والإنصاف حق – فإن القائد الضرورة كان مؤمناً بأن خير الناس من نفع الناس – وهذا حتى قبل حملته الإيمانية – ففي الوقت الذي كان رجال العراق – لا رجال طائفة بعينها – في جبهات الحروب، استطاع الكثير من اخواننا العرب من فلسطينيين ومصريين ويمنيين وأردنيين وغيرهم، من خلال عملهم في العراق، من بناء ثروات لا يجرؤون أن يحلموا بها بل إن الأمر تعدى إخواننا إلى غيرهم ممن ليسوا بإخواننا كالهنود والفيتناميين و….
هل من داعٍ لذكر ما جرته تلك الحرب من ويلاتٍ بعدها، ذلك انها عندنا لم تنتهِ يوم الثامن من آب، ففي الوقت الذي حققت اغلب دول المنطقة في فترة الحرب قفزات نوعية في التنمية والتطوير وإرساء الاستقرار، والارتقاء ببلدانها وشعوبها، وفي الوقت الذي إنطلق فيه خصم الأمس ليحذوا حذو هذه الدول معتبراً ومتعظاً من الحرب، كنا لا نزال نخوض في حماقات المهرج الضرورة .. من حملات زيادة الإنجاب مروراً بحملات الأنفال وملحمة الكيمياوي المزدوج ..وصولاً إلى اجتياح الكويت والانكسار المذهل لـ ( جيشنا الباسل ) في ( أم المعارك الخالدة ) وعبوراً إلى مقابر الانتفاضة الجماعية الشعبية وانتقالاً إلى سنوات الجوع والموت البطيء
( موت الروح والحس والقيم والثقافة ) والعزلة الرهيبة عن العالم .. والباقي كله معروف.. فأي تهنئة تلك التي تضحك على ذقون جراحاتنا؟ وأي تاريخ حالك ذاك الذي يهرجون به؟ وأي انتصار حققه المهرج الأرعن الضرورة بسرقته أعمارنا وقتله مستقبلنا؟
كفوا عن السخافات والتهريج .. كفوا عن خنق ضمائركم .. كفوا عن إرتداء عصابات أعينكم … وحاولوا – لمرة واحدة – حاولوا أن تكونوا أولاً: بشراً ، وثانياً: عراقيين .. حاولوا أن لا تنكئوا دمامل قيح تاريخكم المزمنة.