الكلام المتناقض الذي يلجأ إليه المؤمنون بظاهر الأحداث دون التفاعل مع الاستعداد اليقيني لمجرياتها لا يثبت أمام النقاش، أو البحث عن الحقائق التي تحسب في نظر الجاهل أنها من المسلمات التي تقترب من تعداد المسميات، إذا ما استقرت المعاني الكفيلة بتبيانها على الحالات التي تكون تابعة للشبهات والأباطيل التي ابتلي بها جمع من المحققين، ومن جاء من بعدهم من الذين كان همهم إضفاء الصفات غير الواقعية على روح المفاهيم القرآنية، وإخراج مصاديق تلك المفاهيم من السياق المقرر لها، وأنت خبير من أن هؤلاء ليس بوسعهم أن يجعلوا القرآن مسيراً بواسطة أفكارهم، وإنما جعلوا القرآن الكريم شاهداً على ضلالهم وجهلهم فيما يستجد لديهم من آراء بعيدة عن نهج الكتاب أو الطرق التي يفسر بها، والغريب أن لهؤلاء صيحات كبيرة تلوح في آفاق من ينصرهم على أسباب الجهل الذي كاد أن يكون هو المحرك المباشر الذي يسيرهم سواء كان ذلك على علم منهم أم لم يكن ويظهر أن الاختيار الثاني هو الأقرب.
ومن هنا نرى أن مجموعة لا بأس بها أخذت باتباع نهجهم السقيم، الذي لا يبتعد عن معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) الحجرات 6. وبناءً على هذا يمكن القول إن هؤلاء الناس الذين أخرجوا الألفاظ القرآنية عن حقائقها، لم يقدموا خدمة للقرآن الكريم بقدر ما جعلوا كتاب الله تعالى منقوص الشأن، ومسيراً داخل حدود الدائرة التي أرادوا تنزيهه من خلالها، والحقيقة أن القرآن الكريم لا يحتاج إلى تنزيه، لا سيما من قبل هؤلاء الذين لا يعدلون آية واحدة منه، وإنما يحتاج إلى تفسير وبيان، لأن التنزيه ليس من اختصاص الناس فهو متكامل بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء ومن يظن خلاف ذلك فهذا لا يخرج عن دائرة الشك أو الجحود، كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) النمل 14.
من بعد هذه المقدمة يظهر أن الذين أخرجوا الألفاظ القرآنية عن سياقها لا يمكن أن يستقيم رأيهم أمام النقاش، ومن الأمثلة على ذلك ضرب النساء الذي بينه القرآن الكريم على أتم وجه، والذي لا يراد منه إلا الضرب المتعارف عليه بقرينة السياق، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً) النساء 34. وكما هو ظاهر من سياق الآية فالضرب هو الضرب، لا يحتاج إلى البحث في المعاجم، لأن السياق يدل على ذلك وما ذهب إليه بعضهم من أن هناك ألفاظ مشتركة في المعنى، يجب أن ينسب الضرب إلى واحدٍ منها فهذا بحد ذاته لا يعتبر من البيان، وذلك لأن السياق كفيل في إظهار المعاني، لا أن تترك المشتركات وتفسر بأصل آخر لا يتفق والسياق القرآني.
فإن قيل: إذا كان للضرب معنى آخر فما الضير في نسبته للآية؟ أقول: مع وجود المشتركات اللفظية لا يعني أن نختار ما يناسب أذواقنا، بل يجب أن نحمل الألفاظ على المجموع الكلي للآية دون تفريقها وإخراج معانيها عن الأجواء التي نزلت فيها، أو عن سياقها على أبعد تقدير إذا ما أردنا الابتعاد عن أسباب النزول. ومن هنا يجب وضع الألفاظ المشتركة في أماكنها دون الخوض في المفردات أو المصطلحات البعيدة عن مجرى التكامل اللفظي، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) النساء 101. وكما ترى فإن الضرب الوارد في الآية لا يراد منه إلا السير، والذي عُبّر عنه بالسفر بلغة الفقه، وهذا لا يحتاج إلى بيان لأن القرينة تدل عليه وهذا المعنى أقرب إلى قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) البقرة 273. فمعنى الضرب هنا هو السير وإن شئت فقل السفر لأن هؤلاء لا يستطيعون السفر وجلب رزقهم، والسياق يدل على ذلك، فلا يمكن أن أنسب هذا المعنى إلى ضرب المرأة التي يخاف البعل من نشوزها، فهذا قمة التجني على كتاب الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) المزمل 20. فهذه الآيات جميعها ظاهر فيها معنى الضرب، وهو السير في الأرض والانتقال من مكان إلى آخر. وكما تلاحظ فإن الجهة منفكة، ولكل سياق متعلقاته الخاصة به. وبناءً على ما تقدم يمكن أن نبين لهؤلاء أن من يريد تنزيه هذه الظاهرة فعليه أن يوجه الآية من هذا المنطلق، والبحث في طرق الضرب وكيفيته، لا أن يجعل له معنى آخر، وعلى هذا فالأمر يحتاج إلى بيان وتفسير لا إلى تنزيه، لأن القرآن لا يحتاج إلى ذلك فتأمل.
وهؤلاء الذين أشرنا إليهم لا يختلف أمرهم كثيراً عن أولئك الذين ارادوا أن يجعلوا آيات القتال بعيدة عن الأجواء الإيمانية المصاحبة لها، وذلك من خلال أقوالهم غير المجدية التي تبين أن القتال لا يمكن أن يتم إلا إذا كان للدفاع دون الهجوم الابتدائي، وهذا أيضاً لا يخرج عن دائرة التنزيه غير المبرر، ولا يخفى على المتأمل من الله تعالى فرض القتال على جميع خلقه، وهذه سنة جارية منذ العصور الأولى لنشأة الإنسان، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن هذا القانون يجري في جميع المخلوقات، فهل نستطيع القول إن الله لم يخلق الحيوانات التي يأكل بعضها بعضاً من أجل البقاء، هل يمكن أن نخرج الموضوع عن حقيقته ونجعل له تنزيهاً مشابهاً إلى تنزيه ضرب النساء، علماً أن قانون الحيوانات هو الصراع من أجل البقاء ولا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بهذه المعادلة التي لا يمكن أن نستوعب جميع أبعادها في هذا الوقت القصير.
من هنا نعلم أن لكل شيء أسباب ومسببات لا يمكن أن ينتقل عنها، لأن القانون الذي وضعه الله تعالى لا يمكن أن يكتب له البقاء إلا بهذا الوجه، ومن هنا فإن القتال الذي فرض في القرآن الكريم وكذا الحروب التي تنشب بين الناس لأهون الأسباب، ما هي إلا شواهد على بقاء دين الله تعالى، وهذا هو الأصل الذي بسببه أوجد الله الخلق، لأن الله تعالى ما خلق الخلق إلا لأجل أن يُعرف ويُعبد كما في الحديث القدسي وإن كان هو سبحانه غني عن العالمين، ولكن فائدة ذلك تعود إلى الناس، وتبيان هذا المعنى يحتاج إلى فلسفة أعمق وعسى أن نوفق إلى بحث ذلك في وقت آخر. واعلم أن السبب المباشر للفساد وضياع الدين لا يخرج عن لوازم السلم المعتاد لدى الناس، والذي يكون سبباً لنسيان الخالق والانحراف عن طريقه وبالتالي يحل القانون الآخر الذي يأخذ الأجواء على القانون الإلهي.
وبطبيعة الحال فإن من ينظر إلى التقلبات الزمانية أو دراسة التأريخ سوف يجد الكثير من الأمور الغريبة التي جعلت الأرض خاضعة للطغاة ومن على شاكلتهم، وبالتالي يتلاشى القانون الإلهي، دون أن يكون هناك تلازم يجعل المعادلة الكونية تأخذ دورها في التفاعل الذي يؤدي إلى حفظ النظام، ومن هنا نجد أن القرآن الكريم يشير إلى الفوائد العامة في تشريع القتال دون أن يجعلها في منأى عن الحفظ التكويني لنظام الكون، وهذا ما يتضح من قوله تعالى: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) الحج 40.