مشكلة رئيس وزرائنا حيدر العبادي أن له عشرين لسانا، وقد يكون في صدره عشرون قلبا، أيضا، في حين أن كرسي الرئاسة المذهب الهزاز لا يليق إلا بمن له لسانٌ واحد طويلٌ وشديد، وقلبٌ واحدٌ قُدَّ من حديد.
وفي تاريخ العراق الطويل لم يجلس على كرسي الرئاسة واحد منزوع الدسم يخاف حتى من خياله.
ويبدو أنه، من أول أيامه في الرئاسة التي هبطت عليه باليانصيب المغشوش، قرر أن ينهج في علاقاته الداخلية والخارجية، معا، سياسة (ما يطلبه المستمعون)، حيث يقدم لكل عدو، ولكل صديق، الأغنية التي يحبها وتشرح قلبه للإيمان.
وذلك لأن الرئيس حيدر العبادي فاهم أن أصول القيادة والزعامة تقضي بأن يكون الزعيم منافقا، مراوغا، لا يقبض أحدٌ من أي كلامٍ يقوله أيَّ شييء. (يُعطيك من طرف اللسان حلاوةً، ويروغ عنك كما يروغ الثعلبُ). ويَصف أهلُ الفقه السياسي العراقي رئيس وزرائنا بأنه رئيس مائي بلا طعم ولا لون ولا رائحة.
فهو مرة مع المحاصصة الطائفية، ومرة ضدها. مع نوري المالكي، يوما، ويوما ضده. مع الائتلاف (الوطني)، تارة، وليس معه تارة أخرى. مع أمريكا وضدها. ومع إيران وضدها. مع السنة وضدهم. مع الحشد الشعبي وضده. مع السيد مقتدى وضده. مع عمار الحكيم وضده. مع الكورد وضدهم. مع تركيا وضدها. ومع السعودية وضدها.
وقد سألوا (أبو الجنّيب)، كما يسميه العراقيون، وهو السرطان البحري، لماذا تسير مرة شرقا ومرة غربا، شمالا تارة وجنوبا تارة، فرد عليهم وقال: كلٌ يمشي وفق ما اقتضيه المصلحة.
وحين تكون هذه الخلة في سلوك الرئيس في الأمور الهامشية غير المهمة في حياة المجتمع، كالأكل والشرب واللباس، لن تثير في أحد خوفا على أمنه وحياته وكرامته ورزقه ومستقبل وطنه وأبنائه، حتى حين تتدخل حكومة حزب الدعوة في أمور المواطن الخاصة، كالأكل والشرب واللباس. ولكن حين يجعل الرئيس نفاقه وانتهازيته وجبنه سياسة الدولة ومصدر قراراتها وقوانينها تكون الحياة جحيما بل أكثر من جحيم.
العبادي والقائد الضرورة:
خذوا هذه مثالا. فالرئيس العبادي يعلم حتى قبل ترئيسه أن سلفه نوري المالكي أساس الخراب والاختلاس فلم يفكر، ولو مرة واحدة، أن يحيله إلى قضاء. المرة الوحيدة التي أراد فيها الرئيس أن يرتدي لباس القائد (الحمش) والصريح والجريء الذي لا يخشى في الحق لومة لائم حين هاجم المالكي، بقوة، وقال عنه، بعصبية، إن (القائد الضرورة) سلمه خزينة الدولة فارغة. ولكن دون أن يصرح باسمه، كالعادة. وحين غضب (رئيسُه) في الحزب، و(رفيقُه) في الائتلاف (الوطني)، وشريكُه في الوكالة عن الحرس الثوري، وكشر له عن نابيه الكبيرين خاف السيد الرئيس، وارتجف، وأقسم بأغلظ الأيمان على أنه لم يقصد نوري المالكي بالقائد الضرورة، بل يقصد صدام حسين.
وهذا ما أسقطه في عيون العراقيين، وجعلهم يسخرون منه قائلين: إن الراحل صدام حسين قام من قبره، وأفرغ خزينة الدولة من أموالها، ثم عاد إلى قبره من جديد.
العبادي والعصابات:
وهاجم، مرةً، أيضا، (كثيرين)، ولم يصرح باسم أي منهم، تاركا الأمر لـذكاء المستمعين، قائلا: إن هناك (عصابات) “تحاول الاحتيال عليّ بحجة المذهب”، ولكننا ” بالإرادة الصحيحة سنصمد وسنكون أقوى، والبعض هيأ نفسه لافشال وعرقلة كل شيء نقوم به، ولكننا لن نسمح لهم، وسنستمر”.
وتساءل: “هل إن قتال أبطالنا ومحاربة الدكتاتورية هي من أجل أن تحكمنا عصابات ؟”.
وحين رد أحد رفاقه في الحشد الشعبي، زعيمُ مليشيا “عصائب أهل الحق”، قيس الخزعلي (وهو الحكومة فوق الحكومة)، على تصريحات الرئيس حول العصابات التي تسعى لإضعاف هيبة الدولة وتستخدم السلاح والخطف ضد المجتمع متسائلاً بسخرية: “من الذي ينتقص هيبة الدولة، مشاجرةٌ في شارع فلسطين، أم اقتحامٌ للبرلمان، أو تطويقٌ لمطارٍ دولي؟”، سكت الرئيس وبلع الإهانة، وكأن شيئا لم يكن.
ترمب والعبادي وإيران:
وهذه سقطة أخرى من سقطاته. فقد صرح متباهيا، في أعقاب لقائه التاريخي بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بـ “أنه حصل على تأكيدات بمزيد من الدعم الأمريكي في قتال تنظيم الدولة الإسلامية خلال محادثات أجراها مع الرئيس ترمب وكبار مستشاريه”، و”أن الرئيس ترامب بدا أكثر تحمسا لقتال الإسلاميين المتطرفين من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما”.
فغضب عليه قاسم سليماني وهادي العامري ونوري المالكي وسفير الولي الفقيه في بغداد، وأظهروا له العيونَ الحمر، معتبرينها مودةً زائدة من الحكومة العراقية للأمريكان. فسارع الرئيس إلى ترطيب الأجواء، وتهدأة الخواطر، فشتم أمريكا قائلا: “إنني أريد تحقيقا في الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى تغيير أهداف عمليتها العسكرية في العراق من (تحرير) من نظام صدام حسين الإرهابي إلى (احتلالٍ) قاد إلى فوضى مستمرة حتى اليوم.”
وأضاف قائلا: “إن التدخل الأميركي والفوضى التي تبعته ساهما في فتح الباب أمام الجماعات الإرهابية للدخول إلى البلاد، الأمر الذي دفع العراقيون ثمنه باهظا”. ثم عبر الرئيس العبادي عن أمله في أن يتم تعويض العراقيين عن المآسي والكوارث التي عاشوها”. بسبب الاحتلال الأمريكي للعراق.
وحين فضح البيت الأبيض تفاصيل الزيارة، وأذاع أن الرئيس الأمريكي ترمب طلب من حيدر العبادي “ضرورة التعاون على لجم الحشد الشعبي والمليشيات التي تخضع لتوجيهات إيران وأوامرها”، بادر العبادي، فور عودته إلى بغداد، إلى استقبال عدد من قادة الحشد الشعبي، على رأسهم رئيس منظمة بدر، هادي العامري، وأبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي، ليخبرهم بأنه إنما يخدع ترمب، وبأن ولاءه المطلق لإيران ولكل أبنائها ووكلائها وموافقته على كل ما يفعلونه بالوطن العراقي وأهله، فأشاد بدورالحشد الشعبي، وطالب بحماية الحشد من “الأيادي التي تشوّه سمعته”، مؤكدا أن عناصره “تطوعوا من أجل الدفاع عن العراق وأهله وبفتوى المرجعية الدينية”.
سقوط الموصل:
وهذه قضية أخرى. مؤخرا طالبت اللجنة القانونية النيابية بتفعيل ملف سقوط الموصل الذي صوت عليه البرلمان وأحاله إلى القضاء، والذي يحدد نوري المالكي مسؤولا أولا وأخيرا عن الكارثة، ودعت حكومة حزب الدعوة إلى متابعة الملف. لكن رئيس الوزراء الذي يعرف القضية من ألفها إلى يائها أراد أن يتملص من واجب إحالة المتهم الأول إلى القضاء، فعلن أنه لن يفتح ملف التحقيق بشأن سقوط الموصل، “إلا بعد الانتهاء من دحر تنظيم داعش الإجرامي وإنهاء وجوده على الاراضي العراقية، وتهيئة جو سياسي هاديء ومستقر.” إصبر يا حمار إلى أن ينبت الحشيش.
العراق وقطر:
وفيما يتعلق بالموقف من المقاطعة الخليجية والعربية والاإسلامية لقطر بسبب دعمها لتنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش والإخوان المسلمين، كان الأولى برئيس وزراء العراق أن يسارع إلى تأييد معاقبة الحكام القطريين على مسؤوليتهم الكبرى في تمويل الاعتصامات في المحافظات السنية، وتنشأة داعش بين المعتصمين، وتسمة أفرادها بـ (ثوار العشائر)، وتشجيع تجار الشعارات القومية والطائفية على التهديد بالزحف على بغداد، واحتلالها، ليعمد المالكي إلى السعي لتسهيل احتلال نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى من قبل الدواعش، وذلك انتقاما من تهديدات المعتصمين.
لكن رئيس وزرائنا أدلى بدلوه، فاتخذ موقفَ إيران ووكلائها العراقيين واللبنانيين واليمنيين والسوريين الذين انحازوا لقطر، معلنا أنه “يعارض العزلة التي تفرضها السعودية ودول عربية أخرى على قطر، لأنها تضر المواطنين العاديين”.
ولكنه، في الوقت نفسه، ومن أجل رفع عتب السعودية والإمارات ومصر، قرر زيارة الرياض” للتباحث مع الملك سلمان”.
طريق طهران – دمشق ـ بيروت:
ومسألة أخرى أهم. أفادت وكالة (مشرق) الإيرانية المقربة من الحرس الثوري أن “الطريق البري بين طهران ودمشق وبيروت قد اكتمل مع سيطرة إيران وميليشياتها على النقاط الحدودية الجديدة عبر الحدود السورية – العراقية”،ومن ناحية الحدود العراقية تتقدم ميليشيات الحشد الشعبي من مدينة حديثة غرب محافظة الأنبار نحو الحدود السورية لتلتحق بالميليشيات الإيرانية التي تتمركز على بعد 100 كيلومتر منها، بحسب وكالة (مشرق).
كما أعلن نائب قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي أن “حدود إيران وصلت إلى البحر الأحمر وشرق البحر الأبيض المتوسط”.
أما هادي العامري فقد وصف معارك الحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية بأنها “من أجل أن نضمن أمن العراق”. وأكد الترابط بين الوضعين في سوريا والعراق، قائلا: إنّ “القتال هنا كأنه قتال هناك”.
كل هذا يحدث، ورئيس وزرائنا يرى ويسمع و(يطنش)، تاركا الخلق للخالق، بلا وجع راس ودوخة وجدل عقيم.