ربما يتوهم الواهم ان المثل والأخلاق هي نفسها الألاعيب السياسية الماكرة، وهذه هي الطامة الكبرى، فالسياسة مشوبة بالمصالح والمنافع واللف والدوران والمراوغة للحصول على أكبر عدد ممكن من الامتيازات الحزبية أو الفئوية ولربما الوطنية، أما المثل والأخلاق تبقى ثابتة لا تخضع بشكل من الأشكال للمساومات والمزايدات والحيل والمكر والخداع، لأنها تعبر عن هوية الفرد أيا كان معتقده أو مذهبه أو متبنياته الفكرية، لابد للإنسان من وجود ثوابت ومتغيرات يمشي بازائها لاستحصال زاده المعنوي والمادي، ولا يجوز الخلط بينهما للحصول على مكاسب مادية زائفة، وكل من يخلط الأوراق ويتصيد بالماء العكر ويوظف المثل للحصول على مكتسبات سياسية لابد أن يأتي يوما ينفضح أمره وتبان سريرته وإن طال السرى.
ومن هذا المنطلق عندما نريد التعامل مع السعودية مثلا، لابد أن نفصل بينها كمذهب تكفيري يصدر الإرهاب للعالم الاسلامي بمجرد الخلاف مع فكرهم المتطرف، وكدولة قائمة على أساس المصالح والمنافع المتبادلة بين الدول، لا أن نخلط الأمور ونقاطعها سياسيا بذريعة أن فكرها متطرف، نعم ليس لهم الحق بفرض وصاية على الشعوب مثلما ليس على بقية الشعوب بفرض وصاية عليهم، كل يتمسك بالمنهج الذي يعتقده، هذا من الجانب القيمي والأخلاقي، ولكي لا يثار ضدنا الجانب العقدي المتطرف لابد من ترويضه سياسيا بالاتفاق على نقاط مشتركة تحفظ حقوق جميع الأطراف، وهذا يذكرني بأيام حكم الرئيس الايراني الاصلاحي الشيخ الرفسنجاني عندما أوفد وزير خارجيته الى السعودية فصرح من الرياض أن المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في ايران هما جناحا الأمة الاسلامية، التي بدونهما لا تستطيع الأمة التحليق بالفضاء، وهذا التصريح هو سياسي بامتياز، للحفاظ على القدر الممكن من الامتيازات ولكبح جماح التطرف الديني لدى الطرفين، وهو جيد اذا ما احسن التصرف به، وهو بطبيعة الحال ليس له علاقة بالقيم حيث أنه لا يلزم الوهابية أن تكون شيعية ولا تلزم الشيعة بالالتزام بالمذهب الوهابي، بل ان كلا منهما يسير على وفق المنهج الذي يرتئيه، ولكنهما يتفقان سياسيا بما يضمن العيش المشترك الخالي من التوترات، وهذا لا يكون إلا من خلال الحوار المسبق والاطلاع على نوايا كل طرف ازاء الطرف الآخر، لدحض كل الأوهام والهواجس المعشعشة في ذهنية طرف ازاء الطرف الآخر.
ومن المؤكد ان تصريح الجناحين للعالم الاسلامي هو سياسي بحت، لا دخل له في الحسابات العقدية والفكرية للطرفين، أما اليوم فإن ما نشهده من توتر في العلاقات الإيرانية السعودية فهو الخلط للجانب القيمي والجانب السياسي لدى الطرفين، وما ينتج عنه بأنه عداء مقدس لكل منهما، وهي دوامة لا تنتهي عند حد، ومعزوفة يتغنى ازاءها كل طرف من دون التوصل الى نتيجة مرضية لدى الطرفين، بل انها مدعاة للتصعيد والترهيب وربما التقاتل وما ينتج منه من دمار اذا ما تدخل العقلاء من الطرفين لنزع فتيل الأزمة.
والحكومة العراقية وبما أنها مشبعة ومثقلة بالمهاترات والمعارك والخصومات، لابد لها من الفصل بين الجانب العقدي والجانب السياسي عند محاورتها البلدان التي هي في صميم الأزمات لدوافع شتى، ولابد ان يكون قرار الحكومة العراقية الديمقراطية المنتخبة من الشعب قرار حازما مستقلا لحفظ المصالح العليا للبلد الذي يعيشون في ظلاله وينعمون بخيراته، لا أن يكون قرار منسوخا لدول وان كانت لها اياد نظيفة ازاءنا ولكن نفس تلك الدول ربما تنقلب مواقفها بين فينة واخرى لمصلحة شعبها، حينئذ اذا كنا اذيال لا اسياد نفقد هيبتنا كدولة اذا ما قبلنا الاملاءات في التسوية والتصعيد مع الدول الصديقة أو المعادية، فلتكن مصلحة العراق أولا أخيرا في تحركاتنا السياسية، مثلما هي مصلحة دولهم أولا أخيرا في تحركاتهم، ولنحصل على ثمار التحرك السياسي وتحييد التدخل الطائفي ولو بالتنازل المتبادل على بعض المتبنيات التي لا تتعارض بطبيعة الحال مع الثوابت الوطنية والدينية لكل طرف من الأطراف، والسياسة هي ان تقدم مصلحة بلدك على سائر المصالح الشخصية والحزبية والدولية، وتبديل العدو المزمن الى صديق حميم بأقل الخسائر، فهل من مدكر…