24 نوفمبر، 2024 8:51 م
Search
Close this search box.

فلا اقتحم العقبة

تشترك الكائنات الحية مع الإنسان في عدد من الادراكات دون الخروج عن الترتيب الذي تقتضيه المهمة التي خلقت من أجلها، إلا أن النقطة التي يفترق فيها الإنسان عن المخلوقات الأخرى تكمن في قدراته المعنوية المتفرعة على إرادته وهدايته إلى الطريق الموصل، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل 78. وكذا قوله: (ألم نجعل له عينين… ولساناً وشفتين… وهديناه النجدين) البلد 8- 10. وبناءً على هذا فقد جعل الله تعالى في مسيرة الإنسان مجموعة من العقبات قد يُحدد في اجتيازها صلاحه أو عدمه، علماً أن هذه العقبات لم توضع لمنع الإنسان من الوجهة التي يقصدها وإنما وضعت لأجل الاختبار الذي يحقق له النتائج المحمودة التي يسعى من خلالها للوصول إلى غايته التي يؤمن بها، سواء كانت تلك الغاية أرضية عاجلة، أو خالدة ما دامت السماوات والأرض.

ولأجل تفصيل هذه المقدمة بطريقة أكثر بياناً يمكننا القول إن الطرق السالكة لوصول الإنسان إلى غايته تتفرع إلى فرعين أحدهما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسيرة الأرضية والأخر يتمثل بما هو أبعد من هذه الحياة الدنيا، والذي بموجبه يحصل على نتائج أعماله المقدمة سلفاً والتي تضمن له المزيد من العطاء اللاحق، كما أشار إلى ذلك تعالى بقوله: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد) ق 35. وكذا قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) يونس 26. وربما يجتمع الطريقان مما يجعل استقرار الإنسان في الأرض مبنياً على النتائج الصالحة التي يطمح إليها ولهذا فقد يسعى للدخول في ركب الجماعة المؤمنة التي تكفل له التطبيق المنظم لقانون شامل يضمن سلامة الحياة الدنيا، كما بين الله تعالى هذه الحقيقة بقوله: (والأرض وضعها للأنام) الرحمن 10. وقوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) الأعراف 96. وغير ذلك من الآيات التي تؤكد هذا المعنى، أما في حالة مجانبة هذا القانون فإن القانون الآخر سوف يقوم مقامه، مما يؤدي إلى إفساد القانون الأول دون الخروج عن يد التدبير، كما بين ذلك تعالى بقوله: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم 41. وكذا قوله: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) الشورى 33.

وعلى الرغم من ظهور هذه النتائج يجب أن لا نغفل فساد البصيرة التي لا تؤمن لأصحابها الرؤية الحقيقية، ولهذا فقد ينظر بعض الناس إلى الفساد وكأنه صلاحاً، وإلى الباطل باعتباره حقاً، حتى غلب ذلك على ظنهم مما جعلهم يتوقعون الخير حتى في رؤيتهم للهلاك، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم… تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) الأحقاف 24- 25. وهذا التصور لا يظهر على حقيقته إلا عند انتقال الناس إلى الدار الآخرة، كما في قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق 22.

من هنا يظهر أن انفكاك الفرع الأول عن الفرع الثاني قد يضمن للإنسان دخوله في ركب المسيرة الآنية إذا ما أخذ بأسباب الأفعال الموصلة إلى غايته سواء كان منشأها يعود إلى التزاماته الاجتماعية أو الالتزامات التي يجد نفسه قادراً على وضع الحلول لها والتي يكون مصدرها ناتجاً عن عدم انعتاقه من الجهة التي تُسير القانون المفروض عليه بغض النظر عن المسميات الحضارية لتلك الجهات التي تتفرع بموجبها التزامات أكبر إذا ما أراد الدخول إلى التكيفات الميدانية التي تدعو إلى التفكير الجمعي، أو التحصيل الكبير الذي يمهد للإنسان وسائل المشاركة في صرحه الشامل الذي تترتب عليه السيادة العامة التي ربما قد يخرج البعض من بين مكوناتها إذا كان اجتماعهم لا يحقق المطلوب.

وخير الأمثلة على ذلك يتجسد في التشديدات التي حصلت من قبل بني إسرائيل، والتي أشار إليها تعالى بقوله: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين… قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون… قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين… قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) المائدة 21- 24. أما في حالة الأخذ بالمنهج المتبع لدى أصحاب الفرع الثاني، فهنا يمكن أن ينظر إلى المحصلات المفقودة لدى أصحاب الفرع الأول بنظرة المثال الذي يعتمد على القوانين العامة، وذلك لإيمان أصحاب هذا الفرع بعدم تحقق المطالب التي تشفع بالدعاء ما لم يكن اعتمادهم على الأخذ بالأسباب مقدماً على التوسل والدعاء.

ومن أروع الأمثلة التي تجسدت في هذا النهج هو ما قام به أصحاب طالوت الذين أخذوا بالأسباب التي أدت بهم إلى اقتحام العقبة التي كانت أمامهم، وبعد أن تم الاقتحام جاء دور الدعاء والتوسل إلى الله تعالى بأن يفرغ عليهم صبراً ويثبت أقدامهم، وقد رسم القرآن الكريم هذه الواقعة بقوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) البقرة 250. وكما هو ظاهر في الآية الكريمة فإن الدعاء قد جاء بعد أن برزوا لجالوت وجنوده فتأمل، وهذا من المصاديق الكثيرة التي بينها القرآن الكريم في اقتحام العقبة، ومن أهم تلك المصاديق ما ورد في قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة… وما أدراك ما العقبة… فك رقبة… أو إطعام في يوم ذي مسغبة… يتيماً ذا مقربة… أو مسكيناً ذا متربة) البلد 11- 16.

أحدث المقالات

أحدث المقالات