23 ديسمبر، 2024 11:08 م

الدين ليس أفيون الشعوب

الدين ليس أفيون الشعوب

كيف يمكن أن نتصور أن الدين أفيون الشعوب والتاريخ البشري يثبت عكس ذلك، فقد تحمل أنبياء الله المسؤولية اﻷخلاقية تجاه توعية الناس وهدايتهم وتجييش عواطفهم ضد الظلم والظالمين.
هل من العدل أن نتهم الدين بأنه يخدر الشعوب!
إن من المؤسف أن يصدر هذا الحكم من قبل فيلسوف،ﻷن العالم ينبغي أن يكون موضوعيا ومتجردا عن العاطفة لكي يصل الى الحقيقة.
ولو أن هذا الحكم والإتهام للدين قد صدر عن الإنسان اﻹعتيادي فالمسألة طبيعية،ﻷن الفرد اﻹعتيادي محدود التفكير والثقافة ولا تكتسب أحكامه أي أهمية علمية أو معرفية. قال تعالى (هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون)…
وهنا ومن باب الموضوعية والتجرد ينبغي طرح هذا السؤال:
على أي أساس أستند فيلسوف الشيوعية (كارل ماركس) في حكمه على الدين بأنه أفيون الشعوب؟
وأفضل جواب عن هذا السؤال ما كتبه السيد الشهيد محمد الصدر(قد) في كتابه الثمين فقه الأخلاق الجزء الثاني حيث قال فيه ما نصه:
(( نعم، يوجد في بعض الاتجاهات الاسلامية ما يخالف ذلك، فقد ورد في صحيح مسلم وغيره ما يدل على وجوب طاعة الحاكم، وان كان ظالماً، ووجوب المحافظة على حكمه والخضوع له وان كان فاسقاً، وفي بعض الأخبار هناك (( لا ، ما أقاموا الصلاة )) أي ما داموا على ظاهر الاسلام. وفي بعضها وجوب الطاعة ((حتى لو ضرب ظهرك أو أخذ مالك )) ونحو ذلك. وسياقها يدل على أنه حتى لو فعل ذلك عن طريق الظلم والاعتداء ، فأنه يجب طاعته والحفاظ عليه .
وهذا اتجاه شاذ في الدين ، ورواياته ضعيفة ، وهو ناشئ من فهم معين لقوله تعالى : ﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ﴾ . على أن المراد من أولي الامر كل حاكم مسلم مهما كانت صفاته وعمله ، ألا أننا لو سلمناه ، فلا أقل من تقييده بأن يكون عادلاُ في نفسه وفي أفعاله ،فاذا خرج من العدالة لم يجز قبول ولايته.
ولعل ماركس قد أعتمد على مثل هذه الاتجاهات المنسوبة الى الدين ، في الطعن في الدين ، والدين منها براء ))إنتهى
وقد تبين من خلال كلام الشهيد محمد الصدر(قد) أن كارل ماركس قد إعتمد على إتجاه شاذ في الدين واترك لك الحكم أيها القارئ الكريم على ذلك…
أيضا هناك أساس آخر ربما أستند عليه كارل ماركس أنقله لكم من نفس المصدر السابق حيث جاء فيه ما نصه:
(( كما قد يفهم البعض أن في الدين اتجاها اخر منافيا لهذا المعنى الذي قلناه ، متمثلاً باتجاه التصوف، وهو اتجاه كثير السريان في المجتمع المسلم بمختلف طبقاته ومذاهبه ، ومن المعلوم أن التصوف يؤدي الى الابتعاد عن الناس ومحاولة التسليم بالواقع على ما هو عليه، والصبر في تحمل البلاء وعدم لزوم دفعه، وكذلك اخراج حب الدنيا من القلب.
مما يلزم عدم الاهتمام بشأن نفسه وشأن الاخرين بما فيهم من عدل أو ظلم.
ولهذا لم يعارض (الغرب) وجود التصوف والطرق الصوفية في المجتمع المسلم؛ لأن وجودها لا ينافي مصالحه، بل هي بالتأكيد في مصلحته؛ لأنها تبعد الناس من التفكير في مظالمه وفضائحه.
بل الامر اكثر من ذلك ، فقد كانت من الوصايا الاساسية الصادرة من الغرب في الجيل السابق ، هو حث الناس على تعلم وصايا (ابن عربي) ونصائحه والسير طبقاً لمنهجه، وليس ذلك صداقة مع ابن عربي أو لأجل حسن الظن به، وأنما لأجل جعل ذلك ذريعة لابعاد الناس عن الاهتمام بأمور الدنيا ، الامر الذي يوفر لهم الفرصة لكي ينفذوا مصالحهم بحرية تامة.
ومن الناحية العملية فاننا نرى أن أصحاب الطرق الصوفية كذلك ، ليس لهم تدخل في الحكم و لا في السياسة ولا في العدل والظلم الاجتماعيين، وهذا هو المقصود الاساسي للغرب المستعمر بكل تأكيد .
ولعل هذه الفكرة هي التي كانت أوضح في ذهن (ماركس) حين قال قولته المشهورة التي سمعناها، والامر كذلك بكل تأكيد ، اذا كان الدين مقتصراً على هذا الاتجاه وخاصاً به .
وجواب ذلك في عدة نقاط :
النقطة الاولى : ان اتجاه التصوف ليس هو الاتجاه الوحيد في الدين ، كما انه لا يعتبر صحيحاً عند الكثير من المسلمين والمؤمنين والمخلصين.
ويكفينا في ذلك أن نسمع منهم الحث على أشاعة واعلان تعاليم ابن عربي وحث الناس عليها ، مما نفهم منه أن الناس بعيدون عن هذا الاتجاه وغير فاهمين له وغير متبعين له، بل ان اغلبهم جاهلون له تماماً ،وهم الاعم الاغلب في المجتمع المسلم بكل تأكيد . اذن، فرد الفعل المفهوم والمتوقع من الصوفية تجاه الظلم والمصاعب والبلاء ، غير متوقع من غالبية الناس .
النقطة الثانية : ان في الدين أحكاماً منافية لمثل هذه الاتجاهات الصوفية كوجوب العدل وتفاصيله وحرمة الظلم وتفاصيله، مما هو معلوم من محله.
النقطة الثالثة : ان الاتجاه الصوفي ان كان يربي الانانية في النفس وعدم الاهتمام بالمسلمين، فهو مما يخالف الدين ويعصي شريعة سيد المرسلين . من حيث ما يدعي الاتصال به والطاعة له.
وأما اذا كان يربى الاخلاص لله سبحانه ولرسوله ولتعاليمه ، فالامر ليس كذلك بكل تأكيد . بل يجب عليه أن يضع كل تعليم في موضعه ويطبق كل حكم في موضوعه . واذا كان الامر كذلك ، اختلف الامر تماماً عما يعتقده أصحاب تلك الاتجاهات الصوفية. )) إنتهى
وعلى ضوء هذا الكلام الجميل الرائع المنصف الموضوعي الذي سطرته أنامل الشهيد محمد الصدر(قد) يتبين لنا جليا أن ما إستند عليه ((كارل ماركس)) في حكمه وطعنه في الدين لا يمثل الدين بل هو مخالف لتعاليم الدين.
إن تعاليم الدين هي قائمة على أساس العدل ،وهنا اختم هذا المقال بما كتبه الشهيد محمد الصدر(قد) في نفس المصدر السابق حيث جاء فيه ما نصه:
(( ومن هنا ، بل من مجموع التعاليم الدينية نعرف ، أن المقولة التي قالها (كارل ماركس) مؤسس الفلسفة الشيوعية ، من أن (الدين أفيون الشعوب) ليس بصحيح تماماً .
فإن الأفيون مخدر، والدين لا يمكن أن يكون مخدراً باعتبار عدة أمور :
أولاً : إيجاده للعاطفة التي سمعنا عنها ،وهي نشر العدل والرحمة في أمم الأرض كلها ، لكي تمتلىء الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
ثانياً : إيجاده للعاطفة المضادة للظلم والظالمين ، سواء في المجتمع الذي يعيش فيه الفرد أو المجتمعات الأخرى.
ثالثاً : الأحكام المضادة للظلم من واجبات ومحرمات ، وعدم جواز الاعتداء على الآخرين وغمط حقوقهم ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ .
رابعاً : إننا لو فرضنا غض النظر عن ذلك كله ، فإن الدين لا يستطيع أن يكبت عواطف الإحساس بالظلم والقهر في قلوب الشعوب . فإن هذا مما يحصل بكل تأكيد ، ولا يستطيع أي فاعل أو جاعل أن يغيره ،
وإنما في الحقيقة أننا وجدنا كلاً من المذهبين الشيوعي والرأسمالي قد خافوا من وثبة المظلومين وتحرر الشعوب ،فاتخذوا الإجراءات المضادة لذلك .
أما الشيوعية والدول الراديكالية ،فقد اتخذت أسلوب القمع والتنكيل والتخويف بإزاء ذلك .وأما الدول الرأسمالية، فقد ألهت شعوبها والشعوب الأخرى بالمال والمشاكل الاقتصادية، وبالبرامج الرياضية والخلاعية وغير ذلك ، مما أدّى أن لا يحس الشعوب بمشاكلهم الواقعية وآلامهم الأساسية ، وهم – مع ذلك – غير فارغين من الاغتشاش والاحتجاج في كل بقاع العالم .
وليس في الدين المقدس الحق شيء من هذا القبيل ، فإن كل ما فعلوه هو محرم في الدين وممنوع في شريعة سيد المرسلين ، ولا سبيل إلى مشروعية إيجاده )) إنتهى