18 ديسمبر، 2024 11:40 م

المشروع الإسلامي .. قرون من التيه الفكري

المشروع الإسلامي .. قرون من التيه الفكري

التبعية الماضوية والمباحث التأريخية سراب وزيف للفكر المجتمعي والانساني والكوني على حد سواء؛ واستحضار ذاكرة الموروث بلا علم ولا منهج ولا دراية والتأصل بها بدون ان يكون هناك قراءة معرفية ادراكية بالمشهد الواقعي وبدون ان يكون هناك اي تفاعل مع تخطيط على الاقل تكتيكي لمستقبل قريب لكي تدام حلقات السلطة والاستبداد؛ يعد جريمة وتخلف بحق القيم الحضارية وخاصة ان كانت تلك السلطة تضيف على مشروعيتها الوكالة الحصرية للحاكمية الالهية لإلباسها ثياب التقدس والتبجيل والتعظيم فينساق المجتمع نحو تبعيات الجاهلية الاولى ويصبح تحت وطئ الانماط التقليدية والمعتقدات التدويرية التي تراتبت وتراكمت وتشعبت فأصابها التشظي والانشقاق خلال عهود طويلة عبر مدونات مستهلكة فائضة عن الحاجة اثمها اكبر بكثير من نفعها؛ ومن المستحيل التغلب على هذا النتاج المتشابه العقيم باعادة القراءات او الدعوة الى تحديث التعاريف والمصطلحات والمسميات وغشاوة الوسطية والاعتدال لكي يخرج علينا من جراء ذلك فكرا هجينا متذبذبا يراوح في مكانه لا ينقلب على الانماط الموروثة ولا يستطيع ان يخلع منها البيعة العقائدية لتبرير النص والمحتوى والحديث والرواية بالنظر الى النصف المملوء من القدح وهذه فلسفة غير صالحة في قاعدتها وعقيمة من اصلها؛ فاين القدح لكي نرى نصفه لسنا ندري ولعلنا ندري ولكننا غافلين ولا نملك فكرا ولا شجاعة لكي نقلب المعادلة فنسري الى حيث ندري .
القواعد البنيوية الاساسية للفكر الديني لا ترتبط ايديولوجيا باي مشروع وانما تتعامل مع الشرعية والحاكمية التي ترتبط بالنصوص الثابتة وهذا هو الاخفاق الكبير الذي مرت به فترات الحكم بعد ان كانت المرجعية الدينية والسلطة السياسية تحت مسمى وعنوان واحد وكل ما دون ذلك المنصب يجب ان يخضع سياسيا وان يسلم تسليما دينيا لها وصار ذلك حاجزا مانعا شاملا لقيام اي مبادرة لتكوين مشروع لان ذلك يعني تقويض للسلطة التي تجمع بين الدين والسياسة (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الامر منكم ) والنص واضح في مدى اقتران الطاعة المقدسة بسلطة الحكم ولكن هذا لم يمنع من بروز محورين في الصحابة المقربين؛ المحور الاول كان يتعامل بشكل سياسي وله طموح واضح في السلطة والذي كان يعتقد ان السلطة السياسية بما تحصل عليه من اجماع الجمهور هي التي يجب ان تقود المرجعية الدينية لذلك كان يناقش ويتدخل في الاحداث التي حصلت نتيجة الصراعات التي كانت تثار في القرون الاولى على سلطة المال والنفوذ اما المحور الثاني فقد كان يؤمن بالاتباع المطلق والولاء بدون تردد؛ والذي تطور ليكون محور معاكس حيث يدعو لأن تكون المرجعية الدينية المنصوص عليها كما يعتقد هي التي يجب ان تقود السلطة السياسة وهنا بدأ مخاض الفتنة بشكل خافت وناعم لم يلبث ان ظهر بشكل قوي وفعال عندما حصل الخلاف في يوم الخميس من الرزية فقد كان من المؤكد ان صراع المحورين قد اصبح في مرحلة خطرة ثم تأجج المشهد في سقيفة بني ساعدة عندما تم عزل المحور الثاني والتحالف على ان تكون السياسة هي الغالبة ولكن بقيت الامور تحت السيطرة رغم حدة الخطاب الاعلامي الى ان حصلت (الفتنة الكبرى) وكان قميص عثمان هو رايتها ثم بدأ الصراع ياخذ منحا اخر في الشكل والمضمون حتى واقعة الجمل التي قصمت ظهر الحاكمية الشرعية الى نصفين كل واحد يمثل محورا فانتصر المحور السياسي في ان يقيم دولة في حين فشل المحور الولائي من ان يقيم اي كيان يشبه الدولة واكتفى بالمرجعية الدينية ومن هنا تعطل الفكر الاسلامي واصبح في تيه عظيم عقيم لا يستطيع حتى اخذ المبادرة الى مشروع ممكن ان يوفق بين المنظور السياسي وبين العقيدة الدينية فبدات أطول سلسلة اغراق تدويني والى حد التخمة وبما تبع ذلك من التفسير والتاويل لصالح من يكون صاحب الشرعية فوظفت الخرافات والسذاجة والتحريف وقبرت في الوقت نفسه اي اعمال للعقل والتفكير وانحصر الامر بالاجتهاد في النص الثابت ليكون مسارا يديم السلطة السياسية ويضيف عليها صفة التقديس بمسميات(امير المؤمنين) والصراع على الحاكمية بين الولاية والخلافة ومنذ ذلك اليوم والى عصرنا هذا ونحن ندور في اعمق هوة فكرية جدلية لا نهائية اسمها المشروع الاسلامي .
ليست المشكلة في جاهلية الامة ولكن الطامة الكبرى في تقديس هذه الجاهلية ونحن اكثر امة اخرجت موروثا موبوءا مداده ليس له حدود عبر مدونات ومخطوطات وكتب واحاديث وروايات وعبر مباحث في الفقه والاصول والعقائد وعلم الرجال والتحقيق والتدقيق وكل هذا يدور في نفس الانماط التقليدية وهو تثبيت شرعية السلطة وقد استغرق هذا من المفكرين والباحثين الكثير من الجهد والوقت وصرف الاموال الطائلة من اجل التسويق والاعلان وشراء الذمم وفتحت المدارس الخاصة والعامة والتي تعني بدراسة العلوم الشرعية والفقهية والجامعات ومراكز البحوث الاسلامية التي تمول من اموال الحقوق الشرعية للغافلين من الناس ناهيك عن المؤسسات الدينية التي تضخمت في نفوذها واموالها كالحوزات العلمية وجامعة الازهر والمرجعيات وطلابهم ومقلديهم وتابعيهم وحواشيهم والعوائل التي اصبحت تتوارث عمامة الاسياد او الشيوخ حتى اصبح الولوج الى منهج واضح ومبين في تفكيك العقائد والمذاهب والتيارات الاصولية والحركات المسلحة التي تواليها امر في غاية الصعوبة كونها لم تعد ادوات تتحرك ضمن اوامر من مصدر معلوم وانما تشابكت الاهداف والاليات باتجاه مخطط غير واضح ويدار بصفقات دولية تستثمر النزاعات لصالح امنها القومي والاقليمي والاقتصادي؛ وكل اسباب هذه التداعيات الخطيرة هو الفشل البنيوي في الفكر الديني من انه غير قادر على قيادة اي مشروع لدولة حديثة ومعاصرة في الوقت الذي يتشبث في السلطة الحاكمية مما ادى الى تأسيس الحركات التي تبنت تحريك الفكر الديني الاسلامي تحريكا سياسيا كالذي حصل في تاسيس الاخوانية وفقه الولاية والذي ينبع من نفس الاصل وهي فكرة المرشد الاعلى للثورة الاسلامية والمرشد الاعلى للاخوان المسلمين وفي المقابل السلفية الجهادية والتكفيرية وقد عملت هذه الافكار بمحور الجهاد الحركي وتصدير الثورة ومنعت وتصدت لأي فكر تحرري تنويري كونه يخرق الفجوة الفكرية لدى العامة من الجمهور من اجل تفتيت المسارات النهضوية للمجتمعات التي تتسلط عليها وجعلها تدور في حلقات النقد والتحليل والنقض والدليل وتجديد الخطاب من على المنابر وتحديث الجدليات والدراسات ولكن كل الذين يعملون في هذا الاتجاه يقعون في مطب كبير لا يستطيعون تجاوزه وهي خدمة الافكار العقائدية من حيث لا يعلمون لان هذا الافراط سيشغلهم عما هو اهم من ذلك وهو الانقلاب على نمطية هذا التيه العقائدي المعقد وايجاد البديل الفكري الواقعي العقلاني لمشروع انساني يستوعب التراكمات الخطيرة والنفوذ به الى فضاء اخر وغلق صفحات الموروث بدلا من اعادة تكرار الصياغات بين عصر واخر من اجل قيام مشروع ليس له بالاصل اي قيام .
المشروع الاسلامي الذي يتقلب بين الحين والاخر في اوساط النخب المتسلطة ما هو الا مخطط سياسي بحت هدفه هو ازاحة اي اتجاه اخر بعد ان منيت الاحزاب الدينية بفشل ساحق على المستوى العقائدي والسياسي وبعد ان اصبحت ادوات فاعلة تحت عباءات الاجندات الخارجية بمسميات محاور الممانعة والمقاومة لكي تحفظ السلطة داخل الانظمة التي تديرها خوفا من تنامي السخط الشعبي والمعارضة الاعلامية الكبيرة للاسلام السياسي بعد خراب مدقع ظهر حينما تسلق السلطة بتأييد من المؤسسة الدينية والتي عليها ان تفهم رسالة واضحة في ان التوجه نحو المشروع الاسلامي هو الغطاء الوحيد الذي يمكن به الحفاظ على النمو الغير مسبوق لمؤسساتها الاقتصادية والاستثمارية وديمومة الهالة القدسية التي تتمتع بها من المقلدين والتابعين والخيوط التابعة لها في الوسط السياسي وسوف تؤيد بخطوات غير معلنه هذا التوجه وسوف تنأى بنفسها عن اي مسؤوليه وبدون ان تكون هناك حجة عليها وهذا واضح من اللقاءات التي تتم بمستوى الدرجة الثانية مع ادعياء السلطة ورافعي راية المشروع الاسلامي بعد الخراب الذي كانوا هم من اسبابه الرئيسية لان الانقلاب سيشمل الجميع بلا استثناء؛ وهذا ما سيعقد نمط الصراع على السلطة بالاتجاه الطائفي والديني وسيكون اصعب مرحلة قد تمر على المشهد السياسي منذ عام 2003 بسبب انقسام الولاءات وتعدد المرجعيات والزعامات الدينية والسياسية والتحشيد العسكري وضعف السيطرة عليه والصراعات الاقليمية المتجددة والمصالح العالمية في المنطقة وستتوقف اي مشاريع للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ولا سيما المعرفية في ظل غياب اي نهوض فكري ينقلب على النمطية التقليدية وتشخيص معارضة محورية تكون قادرة على مواجهة هذا المشروع فكريا وتعبويا لكي نستفيق من غيبوبة وراثية جثمت على العقول لقرون عديدة .