19 ديسمبر، 2024 12:04 ص

” \u062d\u0631\u0628 \u0646\u0647\u0627\u064a\u0629 \u0627\u0644\u0639\u0627\u0644\u0645 “

” \u062d\u0631\u0628 \u0646\u0647\u0627\u064a\u0629 \u0627\u0644\u0639\u0627\u0644\u0645 “

الروايات ذات النَفَس الملحمي؛
   انتهى عصر الملحمة منذ قرون بعيدة، لكن الرواية التي ولدت من الرحم ذاته الذي ولدت منه الملحمة، وأقصد توق الإنسان إلى السرد بوصفه حاجة وجودية، ما تزال تحمل بعض جينات ذلك النوع الأدبي العتيق. فإذا كانت الملحمة قد استنفدت الشروط الاجتماعية والتاريخية لاستمرار كتابتها بعد انهيار الإمبراطوريات القديمة الكبرى كالرافدينية والفرعونية والإغريقية فإن شيئاً من خصائصها ما برحت تتسلل، أحياناً، إلى نسيج السرد الروائي الحديث طابعة إياه بشيء من طابعها. ففي الكوميديا الإنسانية لبلزاك، والأحمر والأسود لستندال، والحرب والسلام لتولستوي، والدون الهادئ لشولوخوف ثمة نكهة ملحمية لا يخطئها الوعي النقدي، وكذلك حدوس جمهور القراء. فهذه الأمثلة الإبداعية المميزة من الروايات، وغيرها، تجري وقائعها على خلفية أحداث تاريخية عظيمة كالثورات والكوارث والحروب. وتبدو مصائر شخصياتها مرهونة، إلى حد بعيد، بما يحصل حولها، ولكأن يداً خفية هي التي تحوك أقدارها، على الرغم من كفاحها البطولي لتغيير تلك الأقدار، أو تكييفها، في الأقل، من أجل الخلاص الشخصي والمجتمعي. فالإنسان الذي يصنع تاريخه بنفسه بحسب فيكو إنما يصنعه في إطار عوامل تاريخية فاعلة لا يقدر على تجاهلها أو تغييرها بسهولة، بحسب ماركس.
   عدّ جورج لوكاش الرواية ملحمة البرجوازية الصاعدة، أي النوع الأدبي الخاص بالمدينة المعاصرة في عصر الثورة الصناعية وما بعده، لكن كثراً من الروايات التي باتت تُكتب، منذ خمسينيات القرن العشرين بخاصة، كانت تتخفف من الثقل الملحمي لصالح تصوير الفرد الاعتيادي في تيار الحياة الروتينية، من غير أن نعدم روايات أستعادت بعضاً مما كانت تتصف به الملاحم.
   هناك، وإن بدرجات متفاوتة، سمات ملحمية في روايات من قبيل ( ليلة لشبونة ) لماريا ريمارك، ( أولاد حارتنا، والحرافيش ) لنجيب محفوظ، ( المريض الإنجليزي ) لأونداتشي، خماسية ( مدن الملح ) لعبد الرحمن منيف. ويمكن أن نضيف إلى القائمة عدداً كبيراً من أعمال كتّاب أمريكا اللاتينية. فقد استمد أكثرهم المادة الخام لرواياتهم من الوقائع التاريخية لقارتهم، وتعاطوا معها برؤى وأساليب فنية متباينة. وتحضر بهذا الصدد أسماء كاربنتير وستورياس وأمادو وماركيز وإيزابيل الليندي وماريا بارغاس يوسا بقوة. والأخير لم ينتم إلى ما عُرف بمدرسة الواقعية السحرية كمعظم مجايليه، وإنما عالج موضوعاته، على الرغم من غرابة الأحداث التي صوّرها في رواياته، بأسلوب واقعي مباشر مستفيداً من تقنيات الرواية الحديثة، وبلغة بالغة الخصوصية والتميّز، كما في روايات ( شيطنات الطفلة الخبيثة، وحفلة التيس، وقصة مايتا ). أما في روايته؛ ( حرب نهاية العالم.. ترجمة؛ أمجد حسين.. دار المدى/ 2012 )  فنتبين ذلك النَفَس الملحمي بوضوح. فالرواية تحكي عن مرحلة فاصلة من تاريخ البرازيل الحديث. حيث تجد الشخصيات نفسها في خضم حرب محليّة طاحنة، وصراع أفكار ضارٍ، ونضال دؤوب ضد تقلبات الطبيعة وقسوتها ومفاجآتها. فتتداخل موضوعات الحب والحقد والغيرة والحرية والعبودية والجوع والعنف والاستغلال والموت.
   أجاد يوسا، في بنائه الفني لروايته، بصياغة شبكة من العلاقات المتشعبة، والمتحوِّلة بين شخصيات كثيرة تنتمي لأعمار وطبقات ومناطق مختلفة، وتتبنى أفكاراً ومواقف مشتركة حيناً ومتعادية حيناً آخر. فثمة مطاردات شخصية دافعها الانتقام، وجماعات تتشكّل، وجيوش تتحرك، ومناطق تُحرق، وسكّان يهاجرون، وفقراء يلتفون حول داعية ديني ذو حضور كاريزمي مؤثر يحتل بهم مدينة نائية ويتحدى الدولة الجمهورية القائمة وقواتها المسلحة. وهذا كلّه يجري على مساحات من الأرض واسعة جداً، وخلال أيام وشهور طويلة. وكل شخصية يقدِّمها الروائي إنما يستبطن واقعها الاجتماعي والنفسي ومعتقداتها وأحلامها.. فحرب نهاية العالم رواية تفاصيل بامتياز. ولابد من أن يكون الكاتب في غاية البراعة والاحترافية والدقة، ناهيك عن امتلاكه لمرجعية أرشيفية واسعة، ليسيطر على عالم ممتد ومعقّد كهذا. وليخلق بين الشخصيات والأحداث حالة من التوازن والهارمونية. ولا تخلو الرواية، في النهاية، على الرغم من المسحة التراجيدية الطاغية عليها، من نبرة تهكم. 
   لنأخذ شخصية واحدة في الرواية، مثالاً، هي شخصية غاليلو غال، الاشتراكي الفوضوي، ذو الأصل الأسكتلندي الذي سبق وأن شارك في كومونة باريس وكاد يُعدم في برشلونة وجاء إلى البرازيل مترعاً بأحلام طوباوية ويسعى للوصول إلى مدينة بلومنته لنصرة المتمردين ومرشدهم ذو العقيدة الدينية القيامية المتعصبة رائياً في حركة التمرد القائمة تعبيراً عن صراع طبقي حقيقي بين فقراء الأرض وملاّكها.. بين عامة الشعب المضطهد والأرستقراطية السياسية المترفة والمتنفذة. فشخصية غال مركّبة، متناقضة، حالمة وفاعلة، مثالية ولها نقاط ضعفها. وحكايته تنمو بموازاة حكايات الآخرين والتواشج معها. فحرب نهاية العالم هي مجموعة من الروايات الفرعية في إطار رواية واحدة، كبيرة، لها ثقلها الملحمي.
حرب نهاية العالم؛
   هناك، اليوم، ما لا يحصى من الروائيين في أرجاء المعمورة، لكن قلة قليلة جداً من هؤلاء من يستطيعون أن يكتبوا رواية مثل ( حرب نهاية العالم ) لماريو بارغاس يوسا. ليس فقط بسبب الحجم ( 715 صفحة بالطبعة العربية ) ولكن لسعة العوالم وتشابكها التي يصوِّرها الروائي. ولا بد من أن يكون يوسا قد أطلع على أرشيف ضخم يخص تاريخ البرازيل في نهايات القرن التاسع عشر، وأيضاً ما قبل ذلك وما بعده قبل الشروع بكتابة روايته. إن عشرات الشخصيات تفعل وتتصارع وتتنقل على مساحة شاسعة من الأرض ولمدة ليست بالقصيرة تجعل مهمة الروائي محفوفة بالمخاطر. وأول هذه المخاطر هو احتمال أن ينفلت من بين يديه خيط ألأحداث، أو أن يقع في التباسات مؤسفة تخص أسماء الشخصيات وصفاتها والأحداث التي تقع لها، وحولها. أو أن ينسى بعض الشخصيات، ويقطع مسار حضورها وحركتها من غير عودة إليها.
   وإذا ما استعرنا مصطلحات علم الاقتصاد فإن يوسا وهو ينكبّ على إنجاز عمله السردي الكبير، ويراجع المصادر التاريخية، قد وجد نفسه أمام ركام ضخم من الموارد ( السردية ) التي عليه إدارتها ببراعة ودقة مستثمراً المتاح منها في سبيل تحقيق أفضل عائد ممكن ( فنياً ). فيوسا لم يكن بصدد إعادة كتابة صفحات من التاريخ، وإنما إبداع عمل روائي مميز مستلهماً وقائع تاريخية حقيقية كما فعل في معظم رواياته السابقة. وبطبيعة الحال فإن ( حرب نهاية العالم ) مثل سابقاتها تبقى عمل تخييل في نهاية الأمر. ذلك أن رواية كهذه بحاجة لتخليقها إلى مخيلة خصبة وجبّارة.
   وأعتقد أن يوسا وهو يخوض مغامرة كتابة عمله هذا كان في ذهنه رواية واحدة على الأقل، اتخذها كمثال للتحدي، هي ( الحرب والسلام ) لتولستوي. فالحرب ها هنا واقعة كونية ووجودية، ونتاج تاريخي طبيعي لانحرافات واختلالات وتناقضات  الحياة البشرية. وحين تشتعل فإنها تنعطف، بشكل حاد أو محدود، بحيوات الناس ومصائرهم. وتغير حيوات أولئك الذين يبقون على قيد الحياة بعد أن تضع أوزارها.
   يبقي يوسا خيط الأحداث مشدوداً، ومتشعباً، جاعلاً القارئ في حالة إثارة دائمة وفضول متقد، وإلا من يجازف، في زماننا هذا، بإضاعة وقته في إتمام قراءة رواية يفوق عدد كلماتها المائتي ألف إذا ما كانت تشيع في نفسه الملل.. إن قصص الشخصيات الفرعية تتناثر على صفحات الرواية وتتقاطع بتناغم وتوازن مرهفين. فيوسا يمنح كل شخصية المساحة الكافية للتعبير عن نفسها وإثبات وجودها، سواء كانت هذه الشخصيات من البارونات الأرستقراطيين أو العسكريين أو السياسيين أو الثوريين المهووسين أو المتعصبين الدينيين أو الفقراء الأميين أو المجرمين السابقين، الخ..
   تلتف حول شخص المرشد/ المسيح المبارك عدد هائل من المخلوقات الرثة القادمين من قاع المجتمع، ومنهم رجال عصابات قساة يحوِّلهم المرشد إلى قديسين. فيؤمنون بدعوته إلى محاربة المسيح الدجّال المتمثل بالدولة الجمهورية، رافضين قوانينها الخاصة بالضرائب والزواج المدني وإجراء إحصاء للسكّان، وقانعين بنبوءة مرشدهم التي تشير إلى نهاية العالم الوشيكة، وحرب ضروس ستندلع، وقيامهم ثانية من موتهم بعد أشهر قليلة، والجنة التي تنتظرهم في السماوات العلى. فيخلقون في مدينة كانودوس ( سيسميها المرشد بيلومونته ) التي سيحتلونها نوعاً من مشاعية بدائية حيث لا تعامل بالنقود وكل يؤدي عمله بحسب طاقته ويحصل على قوته بعدالة. وحين ترسل الدولة الحملات العسكرية لإنهاء التمرد فإنها تباد عند أسوار المدينة بأسلحة بدائية وبسالة عمياء نادرة وخطط عسكرية ذكية يضعها رجال العصابات أولئك متفوقين بها على خطط ضباط الأركان من قادة الجيش. إلى أن يفتك بهم الجوع وقلة الذخيرة في النهاية. فتسقط المدينة بعد أن تتكبد القوات المسلحة خسائر جسيمة ويلحق بها العار والإذلال.
   يختار يوسا لأبطال روايته نهايات عبثية. فغاليلو غال الثوري الاشتراكي يتقاتل في الوحل حتى الموت مع زوج المرأة التي قام باغتصابها في مشهد مضحك وأمام أنظار الآخرين، وهو على مشارف كانودوس يبغي الالتحاق بالثورة التي آمن في قرارة نفسه بأنها ثورة طبقية مقنّعة بالدين. ويُقتل العقيد/ قاطع الرقاب بعدما يمتطي حصانه شاهراً سيفه في موقف يائس إذ يرى جيشه الذي لا يُقهر يغدو شذر مذر أمام مقاومة من يعدّهم حفنة من المجرمين البائسين شذّاذ الآفاق. ويموت باجو/ رجل العصابة الأسطوري بعد أن يؤسر من قبل جندي شاذ جنسياً، وجسمه مثقّب بالرصاص. فيما يحتضر المرشد طويلاً غائب الوعي، يطلق الريح، ويخرج منه سائل أبيض نتن، والمعركة قائمة بالقرب من كنيسته.
     يبدو وكأن يوسا كان يسخر، وهو يرسم مصائر شخصياته، من كل أولئك المتعصّبين المتشّربين بعقائد يظنون أنها الوحيدة الصحيحة، فيقاتلون حتى الموت من أجلها.