في دراسة أكاديمية أجرتها مجموعة من أساتذة الجامعات الامريكية بينهم أوسكار جوردان وألن تايلور ومورتيز شولارك بينوا فيها ان 15% من رأس المال المقترض من المؤسسات المالية هذه الايام قد استثمر في نشاطات انتاجية مادية (الاقتصاد الحقيقي ) في حين كانت أكثرية الاموال المقترضة خلال القرن الماضي قد أخذت طريقها للنشاطات الانتاجية. قد تختلف نسب الاموال المقترضة من المؤسسات المالية من بلد الى بلد لاغراض انتاجية مادية لكن الاتجاه الغالب في الدول الصناعية المتقدمة هو الاقراض للمضاربة في الاسهم والسندات والعقارات من أجل الأرباح السريعة. وبنتيجة ذلك وصلت مساهمة الانتاج السلعي الأمريكي في الاقتصاد العالمي الى أدنى مما كانت عليه قبل 40 – 50 عاما الماضية. وبرغم تحقيق النشاط المالي هذا نسبة 25% من ارباح الشركات الا ان ما خلقه من فرص العمل الجديدة لم يتعدى نسبة 4% من اجمالي فرص العمل في البلاد.اليوم يشكل النشاط المالي حوالي 7% الاقتصاد الامريكي بينما كانت نسبته في عام 1980 4% فقط. *
في هذا المناخ الاقتصادي لا يجد العاطلون عن العمل فيه الفرص لبيع قوة عملهم مقابل أجور مجزية تحسن من نوعية حياتهم ويضمنون بها مستقبلا واعدا لأطفالهم. وبنتيجة ذلك أصبح فقدان الأمل في حياة أفضل بين الشباب الأمريكي ظاهرة عامة وخاصة وهم يشاهدون بأم أعينهم مدنا صناعية سابقة وقد هجرهاسكانها.الدراسات البحثية التي اجرتها معاهد ومنظمات دولية مثل بنك التسويات الدولية وبنك النقد الدولي خلصت الى نتيجة مفادها انه عندما يصل دور النشاط المالي مثل هذه الضخامة فان تأثيره على الاقتصاد يماثل تماما ” قاعة تم افراغها من الهواء النقي”.
ان هذا الوضع غير المحفز على النمو الاقتصادي ليس ظاهرة أمريكية خاصة بل هي الظاهرة المرضية ذاتها التي امتدت عدواها الى غالبية دول اقتصاد السوق المتقدمة. وبنتيجة ذلك فان موجة من الانتقادات لميكانيكية عمل راسمالية اقتصاد السوق قد تصاعدت من داخل دول منظومة الدول الرأسمالية ذاتها متسائلة عن مدى جدواها في حين تنفذ دول مثل الصين والبرازيل وسنغافورة نموذجها الخاص لرأسمالية اقتصاد السوق وقد حققت نجاحات مثيرة. كما أن عددا من الأيديولوجيين داخل مجتمع القلة من مدراء المال والشركات الكبرى بدئوا الحديث علنا عن الحاجة الى ” رأسمالية محسنة ” يستطيع رجال الأعمال اتخاذ قرارات طويلة الأمد بدلا من التركيز على قرارات قصيرة الأمد.**
وفي تصريح للسكرتير العام لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية Angel Gurria قول ان دل على شيئ فانما يدل على ان النظام الراسمالي لم يعد يحضى بثقة أبرز موظفيه على المستوى العالمي. حيث قال ” لقد فشلنا كمراقبين ، وفشلنا كمستشارين , وفشلنا كتعاونيين , وفشلنا كمسئولين عن الرصد والحماية من المخاطر , وفشلنا في فرض الانضباط والشعور بالمسئولية في المنظمات الاقتصادية الدولية. وقال أيضا ” الرأي السائد في بعض الدول الراسمالية المتقدمة منها والنامية بأن نجاح اقتصاد السوق يحتاج الى حد أدنى من التدخل الحكومي ، لكن هذا لا يعني أن يجري العمل بدون أي تدخل من جانب الدولة وهو ما يجري في الواقع في نموذج الرأسمالية الامريكية . فهناك دائما حاجة للاهتمام بالناحية الاجتماعية وابتكار السياسات التي تحمي أولئك الذين هم بأمس الحاجة الى المساعدة وهذا بالضبط ما ما يجب أن تضطلع به المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية.***
الشركات الكبرى في الدول الرأسمالية المتقدمة هي التي تحكم العالم من خلال السياسيين الذين تختارهم هي لتحقيق أقصى الأرباح بأقل نسبة من الضرائب وأدنى مستوى من الأجور. ومن أجل تحقيق هذا الهدف لا تتوانى تلك الشركات عن دعم الأنظمة الديكتاتورية والفاشية وتشجيع الحروب حتى لو ادت الى قتل ملايين الناس.
لقد صدر أخيرا للبروفيسور أنتوني ساتون 1925 – 2002 – أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس – كتابا بعنوان “وول ستريت ووصول هتلر الى السلطة” أورد فيه حقائق مذهلة عن دور رأس المال الأمريكي في صعود الرايخ الثالث.
فبعد تحريه ومن ثم دراسته للوثائق السرية والشهادات الخاصة توصل ساتون الى الادلة المادية المؤكدة بأن البنوك الامريكية لعبت دورا رئيسيا في إيصال هتلر الى السلطة. إذ دعمت شركات هنري فورد وفرانس تيسين ووليام هاريمان وغيرهم الزعيم النازي بما في ذلك من خلال القروض والضمانات المالية لتطوير الصناعات العسكرية الالمانية. وكان كبار رجال الصناعة والمال الأمريكيين قد ارتبطوا بعقود واتفاقيات مع ألمانيا الهتلرية. وهي المجموعات المصرفية لمورغان وروكفلر والمصرفييَن أبراهام كوهن وتوماس لامونت. وكان من بين الشركات الصناعية التي دعمت الاقتصاد الالماني شركات “جنرال إلكتريك” و”ستاندارد أويل” و”ﭭاكُوم أويل” وغيرها. وبعد صدور الكتاب المتضمن لكل هذه الوثائق تم بضغوط من البيت الأبيض تسريح البروفسور ساتون من الجامعة ووقف تمويل أبحاثه.****
في استطلاع للرأي أجراه معهد جامعة هارفارد للسياسات في شهر مايو من عام 2016 في الولايات المتحدة أظهر ان أكثرية المسطلعة أراءهم ليسوا متفائلين من النظام الراسمالي في الوقت الحاضر. فالنظام الذي حول خلال عشرات السنين مجتمعا غالبيته من المزارعين الى اكثر المجتمعات رخاء في التاريخ البشري لم يعد قائما. لقد بين الاستطلاع ان للامريكيين الكثير من الاسباب للتساؤل حول حقيقة نظامهم وان أزمة الثقة هذه التي عبروا عنها ليست اكثر سوءا من تلك التي أظهرتها الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت عام 2016 .
لقد أخفق كافة مرشحي الرئاسة الأمريكية بما فيهم الفائز في السباق الرئاسي في تبني مشروعا للتغيير السياسي والاقتصادي تنتفع منه غالبية المجتمع الامريكي. وما اثبتته الانتخابات الأخيرة أن أي تغيير حقيقي لن يأتي من جانب البرجوازية المالية الحاكمة وهي حقيقة لمستها الجماهير الشعبية خلال تجربتها المعاشة خلال فترة حكم الرؤساء الأمريكيين السابقين. ان حركة جماهيرية تقودها الطبقة العاملة كفيلة باجراء التغيير الجذري الذي يعيد توزيع الدخل والثروة ويعزز الديمقراطية الحقيقية التي يستعيد فيه العمال حقوقهم المهنية والنقابية التي انتزعت منهم خلال العقود الماضية من السنين.
ان الصراع الطبقي في هذه المرحلة التاريخية من التطور السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة قد حسم لصالح راس المال المالي الذي بنتيجته فقدت الطبقة العاملة الكثير من مكاسبها التي انتزعتها خلال كفاحها الطويل ضد أرباب العمل. لقد تحقق للطبقة العاملة تلك المكاسب بفضل وحدتها والتضامن الواسع الذي حضيت به من جانب الحزب الشيوعي الأمريكي قبل تفككه وهيمنة قيادات انتهازية على حركته. فما دامت حركة الطبقة العاملة الأمريكية غير موحدة وتقتقد بنفس الوقت لطليعة ماركسية ثورية حقا فلن تتمكن من احداث تغيير جوهري سياسي في البلاد يعزز من دورها كقوة انتاجية بها وعليها يعتمد النمو الاقتصادي ورخاء المجتمع الأمريكي.
البرجوازية المالية رغم ثرائها الفاحش غير مهتمة في الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي الذي ينتج السلع والخدمات ويخلق فرص عمل جديدة تعزز النمو الاقتصادي المستديم. فبرغم ضخ عشرات التريليونات من الدولارات من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي منذ الركود الكبير عام 2008 ما تزال فرص العمل الجديدة ضئيلة العدد ومردودها على حياة الناس محدودا والسبب ان تلك التريليونات من الدولارات قد استثمرت في أسواق المال مثل المضاربة بالأسهم والسندات والديون والعقارات وليس في قوى العمل وعناصر الانتاج الاخرى.
لقد أحدث التوزيع غير الرشيد للاستثمارات خللا بينا في توزيع الدخل القومي الأمريكي ، فخلال العقود الأربعة الماضية حافظ نصف المجتمع الأمريكي على مستوى دخله الحقيقي دون زيادة بينما أرتفع دخل ال 1% المجتمع الأمريكي 205% وبنفس الوقت ارتفع دخل0,001 % المجتمع الامريكي 636 %. ما يعني زيادة الأثرياء ثراء على حساب الاكثرية الساحقة من الناس. ومن الطبيعي أمام هذا التفاوت في نصيب الفرد من الدخل والثروة أن يعيش 20% من الأمريكيين تحت خط الفقر بينهم حوالي 5 ملايين مواطن ومواطنة تعتمد على بطاقات الطعام لدعم احتياجاتها الاساسية للبقاء على قيد الحياة. في الوقت نفسه تزداد اعداد الأطفال ممن لا معيل او مأوى لهم , ففي عام 2002 كان عددهم واحد مليون مشرد، وأصبح عددهم عام 2006 واحد مليون ونصف المليون وارتفع عددهم في عام 2014 ليصل الى اثنين ونصف المليون مشرد.
وبرغم كل ذلك تتضخم الميزانيات العسكرية الأمريكية بدلا من خفضها وتوجيه الأموال المدخرة منها لصالح تمويل تنمية الاقتصاد لزيادة فرص العمل ، وجريا على ذلك وبالضد من مصالح الشعب الامريكي تتصاعد سياسة حافة الحرب والتهديد بالقوة ضد الدول الأخرى ارضاء للمجمع الصناعي العسكري. ويجري ذلك بصرف النظر عن الحزب الذي يحتل ممثله القصر الأبيض سواء كان من الحزب الديمقراطي أم من الحزب الجمهوري . وكان الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت ايزنهاور قد حذر في آخر خطاب له يوجهه للأمة الأمريكية عام 1961 بأن المجمع الصناعي العسكري ربما يقود الى تدمير الجمهورية الأمريكية اذا لم يخضع للرقابة الديمقراطية. لكن على العكس فمنذ ذلك الخطاب التاريخي ازداد المجمع العسكري قوة وتغولا وهو حاليا يقرر مصير أمريكا وليس المجتمع الأمريكي.
فالرؤساء الأمريكيون الذين توالوا بعده على سدة الرئاسة يبدأون مهامهم في القصر الأبيض بتنظيم زيارات لدول يرشحونها لعقد صفقات شراء السلاح وأقرب الأمثلة على ذلك عقود السلاح التي وقعها الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب مع دول الخليج النفطية في أول زيارة يقوم بها الى خارج الولايات المتحدة. ولم يتخلف الرئيس الأمريكي السابق أوباما عن هذا الواجب فقد بدأ زيارته للخارج بتوقيع عقد صفقة سلاح وأنهاها كذلك بالمهمة ذاتها. ففي تقرير للمجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية جاء فيه ان الولايات المتحدة ألقت خلال ولايتي الرئيس السابق أوباما أكثر من 26 الف طن من القنابل والمتفجرات على كل من العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا واليمن والصومال وباكستان منها 12192 الف قنبلة على سوريا وحدها.******
لهذه الأسباب وغيرها كثير دفعت بالناخب الأمريكي لكراهية كل انتخابات تجرى في البلاد وخاصة الانتخابات الرئاسية فاذا لم يقرر الجلوس في بيته وعدم الادلاء بصوته لأي من المرشحين احتجاجا فانه يتوجه الى صندوق الاقتراع وفي ذهنه خياران اما التصويت للجرثوم أو للمرض فان صوت للجرثوم يكون بذلك قد تحاشا المرض وهذا ما حصل بالضبط في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
علي الأسدي 31 / 5 / 2017
المراجع:
*- American Capitalisms Great Crisis and How to Fix it ,, by,Rana Foroohar ,11/5/2016
**- نفس المصدر السابق
***- 17/2/2013- Why Capitalism Has Failed Us ,by, Ray William
****- المجلة الاخبارية الروسية RT في24/5/2017
*****- US Council on Foreign Relation
******- نفس المصدر السابق