إذا تناولنا حياة الطفل بدءاً من المرحلة الدراسية الأولى نجد أنه يميل إلى التقليد وبطريقة تلفت نظر الأهل وكل من يراقب ما يقوم به من ألعاب تناسب العمر الذي هو فيه، فقد يقلد أستاذه في طريقة إلقاء الدرس أو يقلد أباه في بعض أعماله المألوفة أو بعض أقرانه في المدرسة وهكذا، وقد تتطور هذه الحالة عند الطفل إلى سن متقدمة لذلك فقد أوجب الشرع على الأبوين توجيه الطفل إلى التقليد النافع حتى لا يأخذ الجانب السلبي في التقليد الذي يصل به في الكبر إلى المراحل التي تكون أشبه بالعبادة والاستئناس إلى الأشخاص الذين هم بنظره المثل الأعلى وكأن حبهم أصبح فرضاً لا يمكن الاستغناء عنه، وقد تستمر هذه الحالة عند بعض الناس حتى تصل بهم إلى المرحلة الخطرة التي لا يمكن إصلاحها والتي قد تستغل من قبل المتربصين لتسيير الشباب حسب المناهج المدروسة والمخطط لها بأياد شيطانية همها العمل على تعاسة الآخرين، ومن هنا ظهرت الجماعات المتطرفة التي تأتمر بأوامر شياطين الإنس وتوجيهاتهم آخذين التعليمات التي يتلقونها من أوليائهم وكأنها من الأمور المسلمة التي لا يمكن تجاوز حدودها، وبناءً على هذا انتشر الإرهاب في العالم انتشار النار في الهشيم لأن القيادات الإرهابية تبحث عن العناصر المغفلة التي يمكن بث السموم إلى قلوبهم وعقولهم دون جهد أو عناء.
ولذلك فقد نسمع الكثير من القصص والروايات التي تدل على غفلة وجهل هؤلاء الذين يعتقدون أن حور العين بانتظارهم في جنة الخلد بعد قتل الأبرياء أو أن النبي قد هيأ لهم مائدة من الطعام وهلم جراً، وإصرارهم على هذا النوع من الأساطير يمكن أن يكون نتيجة دراسة معينة من قبل زعماء هذا الكيان الهمجي الذي انتشرت أضراره في مختلف بقاع الأرض وهؤلاء أشد فتكاً من الملحدين أو التيارات الأخرى. وقد مرت الأرض بدورات عديدة وبطرق إلحادية مختلفة وكان لبني إسرائيل النصيب الأكبر في نظرتهم المادية في العبادة لغير الله تعالى لأن إيمانهم لا يتعدى حدود الأشياء المرئية والملموسة. وعندما جاوز بهم الله تعالى البحر وشاهدوا بعض من يعبد الأصنام أرادوا أن يكون معبودهم من هذا النوع كما في قوله: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) الأعراف 138. وقد قادهم هذا الجهل إلى عبادة العجل الذي أشار إليه تعالى بقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم
مؤمنين) البقرة 93. وهذه الآية الكريمة تبين أن بني إسرائيل من أكثر شعوب العالم حباً للمادة التي اتخذوها إلهاً من دون الله تعالى.
ولهذا فإن الصورة العجيبة التي بينها القرآن الكريم في قوله تعالى: “وأشربوا في قلوبهم العجل” لا يمكن الإحاطة بها لأن الحب أمر معنوي والشرب والقلوب أمر محسوس فكأن الخيال القرآني يأخذنا إلى القلوب وهي تحتضن العجل فيتداخل فيها كالماء الذي يتداخل مع الزرع في حالة السقي فهكذا تغلغلت المادة في قلوبهم وآذنت بدخول معبودهم إليها مع أن القلوب لا تدخلها الماديات ولكن التعبير القرآني يقربنا أكثر للاطلاع على انحرافهم وتوجههم إلى عبادة العجل، وكأن هذا المعبود الخاص بهم سيطر على منافذ قلوبهم ثم علل تعالى ذلك في قوله “بكفرهم” أي إن كفرهم هيأ المساحة الكافية لدخول العجل، لأن حب الله حين يغادر القلب يمكن أن يبدل بحب آخر يأخذ الأجواء على الحب الحقيقي ويحل محله وهذا ما حصل لديهم، ثم عقب تعالى بقوله: “بئسما يأمركم به إيمانكم” وقد أنزل الكلام ههنا بطريقة التهكم لفقدهم الإيمان الحقيقي وهذا كقوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) الدخان 49 . وقوله: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) النمل 56 . حيث أنزلوا الطهارة منزلة الخبث. ومعنى الاستهزاء ظاهر في اللفظ.
وأنت خبير من أن هذا العمل الذي ذكر في تأريخ بني إسرائيل يعتبر المثل الأعلى في عبادة غير الله تعالى، وقد نهى الحق سبحانه عن هذا النوع من العبادة كما في قوله: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون) النحل 51. وهذا من أهم الأمور التي فرضتها العقيدة وعلى لسان جميع الرسل لأن العقيدة لا تستقيم إلا بهذا الأمر الذي لا يحتمل اللبس أو الشك إلا لمن ينظر إلى الحقيقة وهو لا يبصرها فمقتضى الإيمان بإله واحد هو الركن الأمثل الذي يؤدي إلى اعتراف العبد بمنعم واحد ومالك واحد ليس له شريك ولا منازع في سلطانه. فإن قيل: إن الله تعالى نهى عن اتخاذ “إلهين اثنين” وهذا يجعل الباب مفتوحاً للشرك به عن طريق آخر؟ أقول: إن إظهار لفظ الجلالة في محل الفاعل في قوله: “وقال الله” يتضمن النهي عن جميع حالات الإشراك وليس فقط اتخاذ أكثر من إله واحد. فإن قيل: قوله تعالى: “إلهين اثنين” تحصيل حاصل لأن قوله: “إلهين” يتضمن معنى الاثنينية فما فائدة الزيادة؟ أقول: التأكيد هنا يفيد التشديد على استنكار الفعل المنهي عنه وجعله أكثر قبحاً في وقعه على السمع.
فإن قيل: النهي عن “اثنين” لا يتحقق فيه معنى النهي عن ثلاثة أو أكثر لذا بامكاننا أن نتخذ أكثر من العدد المنهي عنه لعدم دخول الأعداد الأخرى؟ أقول: الأصل في الآية هو النهي عن اتخاذ غير الله تعالى وأما قوله: “إلهين اثنين” فهو كالمثال لما يتحقق فيه الزيادة في الآلهة لأن الأعداد الأخرى لا يمكن المرور بها إلا عن طريق العدد المنهي عنه. ويمكن أن يكون اختيار هذا العدد نظراً لاعتقاد المشركين من أن هناك إله مختص بالصنع والايجاد ويسمى إله الآلهة، وإله آخر هو إله العبادة وهو الذي بيده التدبير والربوبية لذلك أتى بالنفي هنا لكلا الاعتقادين وإثبات الربوبية والايجاد لإله واحد، وهذا كعجبهم من جعل الآلهة إلهاً واحداً حسب قولهم واعتقادهم أما الواقع فلا يشير إلى جعل أو مجعول لذلك قال تعالى عنهم: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب… أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) ص 4- 5.