25 نوفمبر، 2024 5:35 م
Search
Close this search box.

تعلّمتُ من هؤلاء

تعلّمتُ من هؤلاء

ـ 1 ـ
عندما كنتُ طالباً في المرحلة الإبتدائية ، لا أدري من أين كان والدي يجلب لي مجلتَي ( سمير ) و (بساط الريح ) لأضع قدميّ على طريق القراءة و نحن نعيش في قرية نائية منسية على ضفة شط العرب في جنوب البصرة .. إسمها قرية ( الزيّادية ) .
بمرور الوقت ، قادتني هذه الطريق الى شابٍ في قريتنا ، يكبرني سناً ، إسمُهُ ” عبدالسلام الحاج غالب ” ، كان مولعاً بقراءة المجلات التي يجلبها من المدينة . فلفقر حالنا ، كان أهلي يرسلونني الى محل بقالة أبيه ، للتموين منه بالإستدانة ريثما تنفرج الحال .. فوضعتُ يدي على مؤونة هي غير مؤونة الغذاء ، إنها مؤونة الثقافة .
من بين هذه المجلات ، كانت مجلة ( العربي ) الكويتية هي التي شدتني أكثر من سواها ، فكنتُ أستعير أعدادها منه و أستمتعُ بقراءة مواضيعها المتنوعة ، ما أوجَدَ لديّ متعةً في القراءة و قد توسعت معرفتي البسيطة تدريجياً ، و أدركت أن هناك حقولاً للقراءة ، هي غير حقول الكتب المدرسية المحددة التي إن هي إلاّ مفاتيح للمعرفة و الثقافة في نهاية المطاف .
لم تكن في قريتنا ( الزيادية ) مدرسة ، مدرستـُـنا كانت في قرية أخرى ـ يفصلها نهرٌ عن قريتنا ـ إسمُها ( المحيلّة ) و تحمل المدرسة إسمَها ( مدرسة المحيلـّة الإبتدائية ) . بطبيعة الحال لا يوجد في المدرسة معلمٌ لـ ( التربية الفنية ) ، هذه المادة توضع ـ عادةً ـ بصورة شكلية في جداول التعليم في المدارس العراقية . و في مدرستنا أوكلت مهمة ( تعليم ) هذه المادة الى معلم التاريخ ( أستاذ راشد ) ، ذي العينين الخضراوين و الشارب الكث .
ماذا كان ( أستاذ راشد ) يعمل في حصة ( التربية الفنية ) ؟ كان يُخرجنا الى الساحة القاحلة للمدرسة . و لكي يؤدي ( عمله ) ، و يجعل راتبه ( حلالاً ) ، فقد كان يطلبُ منا أن نستفيد من طين البقعة الصغيرة التي تُسمى ( حديقة المدرسة ) و ( ننحت ) منها ما يحلو لنا ، فيما يجلس هو على كرسيٍ قربَ ( الحديقة ) ، و يقضي وقتَ الحصة مستغرقاً في قراءة كتاب . كل مرة كان يفعل ذلك ، و مع الصفوف الأخرى أيضاً .
ذات مرة دفعني الفضول و اقتربتُ منه ـ و هو مستغرقٌ في القراءة ـ و طلبتُ منه أن يُعيرني واحداً من كتبه التي يقرأُها . نظر اليّ باستهزاء و حاول أن يصرفني ، على الرغم من أنه يعرف جيدأ أنني المجتهد الأول في المدرسة و أنال أعلى الدرجات في مادة التاريخ التي يُدرّسنا إياها .
رضخ ـ في النهاية ـ أمام إصراري ، فوعدني بأن يجلب لي كتاباً في اليوم التالي .. و قد فعل . ذاك كان كتاب ( عبّاسة أخت الرشيد ) للكاتب ” جورجي زيدان ” . فرحتُ بذلك أيما فرح و تباهيتُ أمام زملائي بأن معلمنا يُعيرني كتباً مما يقرأ .
بعد يومين أعدتُ اليه الكتاب ، فتفاجأ ، و عمل اختباراً لي ليتأكد من أنني قرأتُ الكتابَ فعلاً ، فرويتُ له كامل مضمون الكتاب عن دسائس القصر في عهد هارون الرشيد ، ففرح كثيراً ، و أشاد بي أمام زملائي . بعدها أعارني جميع كتب ” جورجي زيدان ” ، ثم تحول الى كتب ” المنفلوطي ” ثم كتب ” نجيب محفوظ ” .. و قد أخذ بيدي .
بعد أن أنهيت المرحلة الإبتدائية ، لم يعد معلمي ـ رسمياً ـ لألتقيه يومياً ، فقد أضحينا في العطلة الصيفية ، و أنا انتقلتُ الى المرحلة المتوسطة ، ولكنني لم أنقطع عنه ، فقد كنتُ أطرقُ ، كل أسبوع تقريباً ، بابَ بيته الطيني الذي يبعد عن بيتنا في القرية بنحو 500 متر ، فيَلمَحُني من الشباك الذي بلا زجاج ، فأنتظر لنحو عشر دقائق حتى يخرج اليّ حاملاً اليّ كتاباً ، و كنت أخمّن أنه كان يحرص ـ خلال هذه الدقائق ـ على اختيار كتابٍ يناسب نمو وعيي و حساسيتي في القراءة ، و قد صدق تخميني ، فقد أكده لي بعد سنوات .
ذات سنةٍ ، كنت في زيارة الى مدينتي البصرة بهدف زيارة أهلي ، حينها أصبحتُ إسماً و وجهاً معروفاً في المطبوعات الثقافية و التلفزيون . و في شارعِ أسواقٍ يعجّ بالناس في المدينة ، لمحتُ رجلاَ قادماً من الإتجاه المعاكس لإتجاهي ، تفرّستُ فيه و هو يمشي بخطوات وئيدة : وجهٌ مربعٌ قويُّ العظام ، عينان خضراوان ، حاجبان شبه كثـّـين ، شاربٌ كث ، شعرٌ أبيضٌ كثٌّ مستقيم الإتجاه ، لا هو ليـّـن و لا مجعّد ، رقبة غليظة ترتكز على منكبين عريضين . قلتُ لنفسي هذا هو ( معلمي الأول ) أستاذ ” راشد ” ، فاستوقفته ـ مع احتمال الخطأ ـ و عرّفته بنفسي ، مضطراً الى تذكيره بما كان يعيرني من كتب و أنا فتىً غض العود في قرية منسية مجهولة جاهلة . ما أن أيقظ ذاكرته ـ التي شاخت ـ حتى تذكّرني ، فعانقني ، و أعرب عن فخره بي .
في المقهى البائس المنزوي ، في ( ساحة أم البروم ) ، في مدينة البصرة ، أخبرني أنه تقاعد ـ منذ سنين ـ من مهنة التعليم ، و الآن هو سمسمار عقارات ، و أخبرني بأنه سيتقاعد من الحياة .. قريباً .

قال لي : أشاهدك في التلفزيون و أنشغل بملامحك و أقول لنفسي : أين رأيت هذا الوجه ؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات