لا يمكن العبور فوق الجوع وانهيار التعليم والأمن وانتشار التطرف والرغبة في العزلة وتشجيع المجتمعات على تعبئة العقول قبل السلاح في انتظار تفاقم الصراعات بلا رشد لحلها وتذليل حماقاتها.
الحياة الشخصية للرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون تذكرني بإعادة واقعية لرواية “الموت حبا” للكاتب بيار دوشين عن تمرد الشباب وثورتهم في العام 1968؛ الفرق أن الرواية الجديدة انتزعت الحياة ولم تتجه إلى الانتحار، هذا ما حدث لقصة حب سيدة الإيليزيه الجديدة ماري كلود المدرسة التي أحبت تلميذها رغم فارق السن بينهما، ثمة جينات رفض اجتماعي وثقافي واقتصادي أثمرت عن تصدعا يراه بعضهم سريعا ومفاجئا لتقاليد سياسية راسخة في تداول السلطة وكراسي البرلمان بين الأحزاب الكبيرة وميولها اليسارية أو اليمينية؛ حركة الشباب أثمرت نبتة أمل اندفعت بأغصان صغيرة من بين جدار كنا لا نرى فيه سوى كتلة من الإسمنت.
وجهتنا الانتخابات التشريعية المبكرة في بريطانيا المقررة في الثامن من يونيو القادم، أي أننا أمام شهر فقط، مدة قصيرة ومدة طويلة أيضا إذا أخذنا رؤية الفريقين تحديدا، حزب المحافظين وحزب العمال لنتيجة المباراة حاليا واحتساب النتائج والأهداف بما أفرزته الانتخابات المحلية لصالح رئيسة الوزراء تيريزا ماي وحزبها المحافظ؛ مدة شهر قصيرة لحزب العمال وطويلة لحزب المحافظين.
التعجيل في الانتخابات المبكرة وبعد عام على استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي “البريكست” ونتائجه القلقة المتقاربة واستقالة ديفيد كاميرون وتنصيب تيريزا ماي بالتعيين، يبدو شكلا ومضمونا دون انسجام مع النظام الديمقراطي الذي كان سببا في الإصرار ومازال على نتائج الاستفتاء، رغم ما يثار عن مداخلات اللحظات الأخيرة في الاستفتاء وتحول الأصوات بما يدعم البريكست.
تيريزا ماي كانت مع البقاء لكنها اليوم تقف لتقطع الطريق حتى على عدد كبير من أعضاء حزبها المعارضين للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ومنهم من يذهب إلى إعـادة الاستفتاء مستندا إلى توجيه الأصوات بالتجهيل والتركيز على المفردات العنصرية وانتشار الكراهية لغير البريطانيين ونبرة النزوع الوطني وشعار “بريطانيا أولا” وسيل من الاستفزازات والتداعيات، مع غياب التأثير الحكومي للحد من آثارها.
الانتخابات التشريعية كان يفترض لها أن تكون في العام 2020، وتيريزا ماي كانت لها رئاسة الوزراء إلى ذلك التاريخ، لكنها اختارت أن تكون سيدة القرارات الصعبة داخليا وخارجيا لتحظى بسند ودعم وتفويض شعبي ومقاعد بعدد مريح في مجلس العموم يضمن لها التصدي للمشاكل، وهي حتما تتعلق في أهم واجهاتها بالرد على ما قاله الاتحاد الأوروبي لبريطانيا: لن نسمح لكم بأي امتيازات.
ما الذي تغيّر؟ أو ما الذي غيّره منصب رئيس الوزراء في رؤية تيريزا ماي لتتوجه إلى اختيار الانتخابات المبكرة وهي التي صرحت لمـرات بعدم رغبتها في الدعـوة إليها؟
بعيدا عن الطموحات الشخصية لتيريزا ماي، وهو حق طبيعي في سياق الالتزام القانوني والأخلاقي بالأعراف الديمقراطية؛ بديهي لكونها امرأة وتسلمت سابقا منصب وزير الداخلية وبما عُرف عنها من صرامة وتشدد أحيانا تجاه قضايا مجتمعية شائكة، بديهي أيضا أن تحضر في الأذهان شخصية مارغريت تاتشر ولقب السيدة الحديدية أو أي وصف آخر يرتبط عادة بالمرأة عندما تكون في منصب رفيع وتؤدي دورا اعتباريا وتنفيذيا مهمّا، وهي أزمة بنيوية حادة في مجتمعاتنا، وعميقة أيضا في غير مجتمعاتنا على مستوى جذور الفكر وإن بدت في ظاهرها بلا معالم.
تيريزا ماي أمام خروج قاس من الاتحاد الأوروبي، له تبعات، الاختيار تحرك من المعارضين وفي مقدمتهم حزب العمال بقيادة جيريمي كوربن إلى الخروج الهادئ من الاتحاد الأوروبي، وذلك يبقي الغموض حول موقف حزب العمال من الخروج أو من نتائج الاستفتاء أو من الثبات على القرار الديمقراطي وعدم التراجع عنه، رغم خيبة الأمل والتراجع في المواقف الشعبية من الخروج الذي تؤكده الاستطلاعات وما نتج من متغيرات لم تنتظر طويلا إكمال الإجراءات المعقدة لعملية الانتقال أو البريكست مع أوروبا.
حزب العمال، قبل الاستفتاء وبعده يعاني من هبوط حاد في رصيده الشعبي وارتباك داخلي فرضته الانقسامات بين أعضائه وعدم وحدة صفوفهم بالاتفاق على زعامة جيريمي كوربن، ونختلف معه نحن أيضا لتخبطه في مواقفه من قضايانا وضياع بوصلته حاله حال الكثير من المناضلين الأوروبيين الذين يتأثرون بالتسويق الإعلامي والتعميم لمشاكل منطقتنا وأجزاء أخرى من أزمات العالم، لكنه مثل معظم قادة اليسار يتعرض إلى حمـلات تعتيم وردود فعـل يدفع ثمنها من تطلعاته السياسية والقيادية لآرائه المتحررة من دبلوماسية لغة السياسة في قضايا الفقراء والمهاجرين والضرائب والتدهور والانزلاق إلى الحروب وقضايا اللاجئين وحجم الديون والفوائد والطفل والمرأة.
بين حزب المحافظين وحزب العمال أكثر من 20 نقطة في الإحصاءات والاستطلاعات والانتخابات المحلية، بما يمثل السبب الأهم في توقيت الانتخابات التشريعية المبكرة، لتحقيق مكاسب ساحقة على حزب العمال ربما أصداؤها تتجاوز الدورة الانتخابية الحالية إلى دورات لاحقة.
بريطانيا وحزبها المحافظ ورئيسة الوزراء تيريزا ماي ومعهم الواقع على الأرض، لا يمكنهم تجاهل أو تغافل حقائق الاقتصاد وصـدمة الأرقـام والخسـائر المتوقعة على توزيع الثروات وسوق العمل خاصة لمحدودي الدخل أو من هـم على حافات مخـاطر فقدان وجبتهـم الغـذائية، دون نسيـان أن بريطـانيا تـأتي خـامسا ضمن أفضل اقتصاديات العالم، لكن فيها تقريبا 20 مليونا عند خط الفقر، ومليون إنسـان فعـلا ضمن برامج الإطعـام، و4 مـلايـين طفل يعتبرون من ضمن معايير الفقر.
الواجهات السياسية للمجتمع، حزب العمال تلقائيا محامي الطبقة الفقيرة؛ حزب المحافظين محامي الطبقة الثرية، الصراع الطبقي التقليدي القائم على أن العمال أدوات المجتمع في الإنتاج والرأسمال ضمانة العمل، هذا الفهم المدبب أنتج لنا زعامات عمالية ومحافظة صلبة لها معالم الأحزاب وبرامجها وناخبوها وقادتها المؤثرون؛ اليوم حزب العمال يبدو فريسة سهلة، تيريزا ماي كانت دقيقة في اختيار موعدها الانتخابي؛ لكن ماذا عن المفاجآت وتحولات شهر من الآن؟ هل توجد فرصة لحزب العمال في الفوز؟ جيريمي كوربن زعيم حزب العمال رفض توقعات الانتخابات المبكرة بنتيجة حتمية مسبقة لصالح المحافظين، واتهم القواعد التي وضعتها النخبة الفاشلة في السياسة والشركات ووصمها بعصبة تزوير النظام من قبل أثرياء ووعد بالتغيير.
في ظل مخلفات استفتاء البريكست، سواء في بريطانيا أو اسكتلندا أو أوروبا أو في العالم، لا يمكن القول سوى إن البريكست حصل وبريطانيا غير قابلة لخرق خيارها الديمقراطي رغم أن هناك أصواتا، وهي موضوعية ولا يمكن الطعن بموضوعيتها، تدعو إلى تغليب منطق العقل والمصالح بإعادة الاستفتاء؛ لكننا حقا أمام متغيرات تقترب من صورة الموجة المضادة التي تفتت الموجة الأكثر خطورة قبل اقتحامها الشاطئ وتعبث به، وتمتزج معها لتفقد الموجتان خصوصيتهما وتفرّد عناصرهما دون خسائر مطلقة من طرف لآخر.
فوز إيمانويل ماكرون وتهنئة تيريزا ماي الحارة للرئيس الفرنسي الشاب، فرصة لاسترجاع التوازن حتى في إكمال رحلة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ومجال واسع لحزب العمال لتدعيم قيادته؛ تيريزا ماي لا تبدو يمينية بإقامة دائمة، إنها أحيانا دون حدود تقليدية قاسية بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين، ثمة مشتركات لا تناسبها عبارة ميول نحو الوسط؛ إنها ميول نحو حلول إنسانية للاقتصاد والحياة الاجتماعية وضياع الجذر الأهم الذي يَضُمُّنا كطبقات وأحزاب وأفكار وتوجهات وانحيازات أفقدت بعض الشعوب معنى الاستقرار والمواطنة؛ إنها الحياة وهي ليست خطابا أو مرافعة لرئيس أو كتلة أو مسؤول دولة كبرى.
لا يمكن العبور فوق الجوع وانهيار التعليم والأمن وانتشار التطرف والرغبة في العزلة وتشجيع المجتمعات على تعبئة العقول قبل السلاح في انتظار تفاقم الصراعات بلا رشد لحلها وتذليل حماقاتها.
الموت حبا، رواية فرنسية من زمن تحشّدت فيه التناقضات لترسم انغلاق الأمل في حياة حرة لعشاق يرفضون السير والتوقف بالأنظمة الصارمة التي ولدت الازدحامات والاصطدامات والموت المجاني؛ للحياة حبا طرق ودروب أخرى تتقدمها فلسفة التجديد والإخاء والحرية والسلام، وإلا فنحن جميعا نتعرض إلى بريكست إنساني كارثي أعمق في المعنى والأثر، لأننا نعاني أصلا من وفرة في المأساة.
نقلا عن العرب