2 ديسمبر، 2024 11:33 ص
Search
Close this search box.

البحث عن مستقبل لتركيا .. بعد إستفتاء صنع “الديكتاتور” الدستوري

البحث عن مستقبل لتركيا .. بعد إستفتاء صنع “الديكتاتور” الدستوري

كتب – طه علي أحمد :

فوز بطعم الخسارة واحتفالات بأروقة “حزب العدالة والتنمية” التركي.. وخسارة بطعم الفوز وطعون واعتراض لدى المعارضة.

هكذا ينحدر المشهد العام في تركيا إلى آتون الصراع على خلفية الانقسام الذي كشفت عنه عملية التصويت على الاستفتاء، الذي تقدم به “رجب طيب أردوغان” في إطار مسيرة نحو تعزيز ديكتاتورية تحت شعارات دينية.

حشد هائل لـ”نعم” والنتيجة فارق ضئيل..

لم يكن فوز أردوغان بنتائج الاستفتاء بمفاجئة.. إذ لم يبتعد الأمر كثيراً عن التوقعات بالحسم لصالح “نعم” على التعديلات التي حشد فيها الرئيس التركي كافة أجهزة الدولة لدعم مساعية إلى الدرجة التي قام فيها أردوغان بتنظيم 44 فعالية انتخابية لحشد الرأي العام لتأييد التعديلات. فضلاً عن الاستعانة بكافة مقدرات الدولة، وكذلك دعم مؤيديه حتى من غير الأتراك.. وهنا نشير إلى قيام فلول “جماعة الإخوان المسلمين”، المقيمين في تركيا، بدور في هذا الحشد من خلال جولات دعائية كتلك التي قام بها الإخواني الهارب “محمد الصغير” في محافظات جنوب شرق تركيا لحث المواطنين على التصويت بالموافقة على التعديلات. إلا أن المفاجأة جاءت في الفارق الضئيل بين النسبتين في ضوء المؤشرات الرسمية النهائية (51.3% أي 24.32 مليون ناخب بـ”نعم”، في مقابل 23.2 مليون ناخب بنسبة 48.7% لصالح “لا”)، لتعكس مؤشرات عديدة على الإنقسام الذي أصبح عليه المجتمع التركي، والذي يعاني من مشكلات اقتصادية مع ارتفاع حجم البطالة إلى 12.7% (مقارنة بـ 10.8%) بالعام الماضي، وانكماش في النمو بنسبة 1.8% فضلاً عن تدني قيمة العملة التركية إلى أسوأ مستوياتها منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016، حيث فقدت الليرة التركية 25% من قيمتها خلال الفترة الماضية.

لم تأت النتيجة بالمكاسب الحقيقية المنتظرة لدى “اردوغان”، حيث بدا التصويت في استفتاء عليه شخصياً، وإن راح يصور الأمر على غير ذلك. وعلى الرغم من حسم النتائج لصالح التعديلات، إلا أن عمق المأساة التي كشفت عنها النتيجة تؤصل لمأزق أردوغاني بل وتركي أعم خلال الأيام القادمة.

ألب أرسلان توركيش

القوميون ينتظرون رد الجميل..

اعتاد أردوغان الاستفادة من متناقضات المشهد السياسي دائماً.. فكما استفاد من أصوات القوميين في مواجهة “الأكراد” في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في عام 2015، نجد اعتماد اردوغان، الذي فشل سابقاً في تحقيق الأغلبية المطلوبة بالبرلمان للانفراد بتشكيل الحكومة، لكنه في هذه المرة يعتمد على الفصيل القومي ذاته ممثلاً في “حزب الحركة القومية” الذي أعلن دعمه للتعديلات، إلا أن ذلك الدعم لن يأتي ــ بلا شك ــ لأجل عيون أردوغان وطموحاته بقدر ما يتصل بمكاسب سياسية يتوقعها، بل وينتظرها القوميون بعد أن تستقر الأوضاع في يد أردوغان. وهو ما يجعل الأخير مطالب برد الجميل للقوميين، والذين يسيطرون على 11.9% من مقاعد البرلمان، وإن بدا جزءٌ من هذا الجميل ممثلاً في المزيد من السياسات المتشددة، والحرب الشعواء ضد الأكراد. ففي خطاب ألقاه أردوغان قبل الاستفتاء بإسبوع، ألمح لأنصاره في “طرابزون”، وهي البلدة التي يهيمن عليها القوميون على ساحر البحر الأسود في الشمال، محاولاً خطب ودهم: “سيكون ربيعاً لتركيا وللشعب التركي، وشتاء أسود للإرهابيين”.

كما قام أردوغان بزيارة لقبر “ألب أرسلان توركيش” مؤسس الحركة القومية الحديثة، ودعم فاعليات إحياء الذكرى العشرين لوفاته.

وهنا نشير إلى أن “حزب الحركة القومية” ذاته يعاني من تصدع داخلي بين أتباع “دولت بهجلي”، الذي قاد الحزب منذ وفاة “توركيش” ويدعم النظام الجديد، وبين الفصيل المنشق عن الحزب وتقوده “ميرال أكسنير”، وكانت تدعم التصويت بـ “لا”.

ويتفق “حزب الحركة القومية” مع “حزب العدالة والتنمية” في كونه غير مؤمن جوهرياً بالحريات والديمقراطية، ويؤيد عودة الإعدام فضلاً عن التشدد في الخطاب ضد الأكراد إلى حد المطالبة بمصادرة حقوقهم الثقافية، بجانب معارضة الانضمام للاتحاد الأوروبي. وبالتالي ففي حالة عدم إلتزام اردوغان بسياسات يتسق فيها مع التيار المؤيد من حزب الحركة القومية يتوقع أن يحدث له انكشافاً استراتيجي وعداء مع التيار الذي تقوده “ميرال أكسنيرا”. ومن مأزق شعبي يضاف إلى الأكراد أنفسهم كأحد التحديات الاستراتيجية التي تواجهها تركيا داخلياَ منذ بدأ “حزب العمال الكردستاني” P.K.K حرب عصابات في عام 1984 مما كلف الدولة التركية نحو 40 ألف قتيل خلال تلك الفترة.

تأسيس لديكتاتورية دستورية..

مع الإلتزام بإجراء الإستفتاء إلا أن الواقع في السياسة التركية يؤكد على أن أردوغان، الرئيس الشرفي بموجب الدستور الحالي قبل التعديلات، يمارس صلاحيات مطلقة.. قبل حتى أن يقوم البرلمان بإقرار تلك التعديلات في 21 كانون ثان/يناير الماضي من واقع تصويت 339 ناخب لصالحها في مقابل 142 رافض لها، ليصدق عليها “أردوغان” في مطلع شباط/فبراير الماضي، وهو ما استفاد فيه أردوغان من محاولة الإنقلاب الفاشلة الأخيرة لكي يطلق ليده العنان في البطش كيفما يشاء. فقد أجرى الاستفتاء في ظل حالة الطوارئ، فضلاً عن وجود 47 ألف سجين، وفصل 140 ألف شخص من وظائفهم بزعم ارتباطهم بـ”حركة الخدمة” التي يقودها الداعية الإسلامي، وأستاذ أردوغان السابق “فتح الله غولن”. الأمر الذي حاولت التعديلات الدستورية الأخيرة ان تعزز من خلاله نمطاً من الديكتاتورية الدستورية.

فمن بين التعديلات جاء إلغاء منصب رئيس الوزراء، ليمنح الرئيس صلاحية تعيين نائب أو أكثر، فضلاً عن توسيع سلطاته في اختيار أكبر موظفي الدولية، وتعديل مدة الرئاسة ذات الصلاحيات المطلقة لخمس سنوات قابلة للتجديد.. أي أردوغان بهذا الوضع قد ضمن بقاءه دستورياً حتى العام 2029.

وكما جاء بين التعديلات حيث السماح للرئيس أن يترأس حزب سياسي، فلن يكون هناك أي حياد لرئيس الدولة الذي يسمح له رسمياً برئاسة “حزب العدالة والتنمية” بما يتعارض مع ما أكد عليه في القسم الرئاسي أثناء تنصيبه.

ومع هذا نجد من بين الأرقام ما يؤكد على مأزق أردوغان حيث يفرض عليه إعادة النظر في الكثير من الأمور التي تصورها في غير موضعها بما يتناقض مع منطق الأشياء وضرورة تبني سياسات اندماجية توافقية داخلياً وخارجياً. إلا أن نتائج الإستفتاء قد أفصحت عن مفاجآت تناقضت مع الجهد الذي قام به أردوغان حينما استخدم كل ما أتيحت له من أوراق للقوة رسمياً وغير رسمياً، وقد تمثلت أهم المفاجأت في نتائج المدن التركية الأربع الكبرى.. ففي “أنقرة” العاصمة الإدارية، والتي لطالما احتدم فيها التنافس بين حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، جاءت نسبة الرفض بـ 51.1%، و”اسطنبول” ذات الرمزية المهمة إذ تعرف بـ”الخزان الانتخابي” و”تركيا المصغرة” لاحتواءها على خمس الناخبين، فجاءت نسبة الرفض فيها 51.3%، و”أزمير” معقل “حزب الشعب الجمهوري” وأهم قلاع التيار العلماني في تركيا بنسبة رفض وصلت 69%، و”أنطاليا” 59%، و”ديار بكر” كبرى المدن ذات الأغلبية الكردية ومعقل “حزب الشعوب الديمقراطي” 67.5%، بينما جاءت أبرز نسبة للرفض في “طونجالي” 81%، ثم “قرقر” بنسبة 71%.

أما على الساحة الأوروبية نجد أن براجماتية أردوغان قد مكنته من تحقيق مكاسب بعد صدامه الأخير مع القادة الأوروبيين في أعقاب تأكد فشل مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، ومنع السلطات الأوروبية وخاصة “هولندا والسويد وألمانيا وبلجيكا” عقد أية فعاليات مؤيدة للاستفتاء، فقد صوت نحو 67% من الناخبين في هولندا، و62% في ألمانيا، و80% في بلجيكا، و59% في فرنسا، و71% في النمسا لصالح التعديلات.

لكن على الرغم من ذلك تبقى “البراجماتية” ذاتها سلاح أردوغان في معالجة الموقف بعد الاستفتاء، وخاصة أن الأوربيين ليس أمامهم سوى الاعتراف بالنتائج الرسمية للاستفتاء في ضوء ما تفرضه حقيقة الوضع الجيوستراتيجي، والاقتصادي لتركيا بالنسبة للأوروبيين. فضلاً عما توفر مخرجات الإستفتاء من فرض السيطرة للتمكن من التحرك بمرونة في ضوء مخططاته في سوريا والعراق، حيث من شأن نتيجة الاستفتاء أن تسهم في المزيد من تركز السلطات والصلاحيات في يد أردوغان، الأمر الذي يمنحه مرونة في التعامل مع هذه الملفات ولاسيما الملف الكردي داخلياً وخارجياً.

أردوغان و”لعنة الإخوان”..

استعان اردوغان بفلول “جماعة الإخوان المسلمين” في تركيا للترويج للتعديلات في العديد من المناطق التركية، فضلاً عن تسخيره أجهزة الدولة. حيث صرح وكيل النائب العام في مدينة أنطاليا “جودت كاياف أوغلو” أن من سيصوت بـ”لا” هم “إرهابيون” وأنهم سيحصلون على المعاملة نفسها التي يلقاها أنصار “حزب العمال الكردستاني”.

لكن على الرغم من ذلك إلا أن نسبة التأييد وفقاً للنتائج النهائية الرسمية لم تصل إلى 52%، الأمر الذي يكشف عمق الإنقسام في المجتمع التركي فضلاً عن أزمة الشرعية التي يعاني منها أردوغان ونظامه وهو ما يتشابه مع حال جماعة الإخوان في مصر عام 2012 حينما حصل ممثلها في الانتخابات “محمد مرسي” على 51% على الرغم من الاستماته التي بذلها أعضاء الجماعة من تزوير الإرادة وتحالفات انتخابية مع عدد من القطاعات السياسية وما شاب العملية الانتخابية من تزوير في البطاقات، فيما يتشابه مع ما نادت به المعارضة التركية من طعون في صحة البطاقات في ثلثي صناديق الاقتراع، فيما من شأنه أن يبطل نحو ثلاث أو أربع نقاط مئوية فيما يلقي بظلال “لعنة الإخوان” والتي تشير إلى أن الإحتفالات المبالغ فيها بين صفوف “حزب العدالة والتنمية” بهذا الفارق الضئيل جداً 1.5%، داخل بلد يعاني من التهديدات الأمنية والمشكلات الإقتصادية المتنامية، فضلاً عن تدهور في العلاقات الخارجية مع تجاهل لنسبة الرفض التي اقتربت من 49% بما يعني نحو نصف المجتمع. الأمر الذي يعني مباشرة أزمة في شرعية نظام أردوغان كما هو الحال بالنسبة للإخوان في مصر، حيث سرعة السقوط خلال أقل من عام في السلطة.

وأمام ما سبق يبدو أردوغان في حاجة ملحة لإعادة النظر في سياساته داخلياً وخارجياً، بالإضافة إلى إعادة ترتيب الأولويات ليضع الإستقرار الاقتصادي والتوافق السياسي في مقدمة أولوياته، إلا أنه في ضوء ما يراه الرجل بمثابة مكاسب مطلقة، فضلاً عن إدراكة لذاته كغير مضطر لتلك المراجعات فمن غير المتوقع أن يقوم أردوغان بذلك. فعلى الرغم من أن الفرصة كانت سانحة لمثل هذه المراجعات في أعقاب محاولة الانقلاب إلا أن طموحاته الشخصية وما يتسم به من غطرسة لم يعبأ لا بمطالب “الأكراد”، الذين يشكلون نحو 20% من السكان، ولا بضرورة إحداث حالة توافق سياسي واجتماعي، عسى ذلك يسهم في دعم الوضع العام ولاسيما الاقتصادي.

إلا أنه وفي ضوء ما يتصف به أردوغان من شخصية متمركزة حول ذاتها، ومتعصبة، وقد أصابها مرض السلطة الناتج عن طول فترة البقاء في صدارة المشهد (منذ عام 2002)، فضلاً عن ميله لتصفية الحسابات مع معارضيه كما حدث في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة منذ شهور قليلة، فمن غير المحتمل أن يعيد أردوغان النظر في سياساته تجاه الأطراف الداخلية وخاصة “الأكراد” ومؤيدوهم بـ”حزب الشعوب الديمقراطية” بجانب “حزب الشعب الجمهوري” الذي قاد حملة صريحة وجادة لرفض الإستفتاء على التعديلات الدستورية. وهو ما يعني اتجاهات محتملة لشخصنة السلطة لصالح أردوغان، الذي نظر قطاع كبير إلى الاستفتاء باعتباره تصويتاً على سياسات أردوغان، بالإضافة إلى ما تسهم به التعديلات من تركيز للسلطات في يده.

وبجانب ذلك فقد افرزت النتيجة العامة للاستفتاء عن اصطفاف سياسي واجتماعي مزدوج ما بين الإسلاميين والاسلاميين من جهة، والأكراد والعلمانيين من جهة أخرى فعلى الرغم من رفض المحكمة الإدارية العليا لهذا الطلب، إلا أن التداعيات السياسية للمساحة الإنشقاق الذي أحدثته نتيجة الاستفتاء لن تكون بالأمر السهل في الساحة السياسية، بل والأمنية والاجتماعية، ومن ثم الاقتصادية في المشهد التركي. وهو ما لن ينفصل في تأثيراته عن موجة الإرهاب التي تستهدف تركيا مع المزيد من الإنخراط المتوقع في الأزمة السورية وقضايا الشرق الأوسط.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة