5 نوفمبر، 2024 1:53 م
Search
Close this search box.

الشعر عرّاب القمر – قراءة في ديوان “احتفاء بالوقت الضائع” للشاعرة ريم قيس كبة

الشعر عرّاب القمر – قراءة في ديوان “احتفاء بالوقت الضائع” للشاعرة ريم قيس كبة

توطئة
       عندما يتجانس الزمكان في مخيلة البدائي(1)/ إنسان ما قبل الكتابة/ (2)يختنق الفعل الإنساني بأزليته اي بأزلية/ الزمكان/ لينشطر الى زمان ومكان مقدسين، ومن هنا تعمل المعابد والزقورات والجدران العالية على كسر التجانس المكاني بصفته حقيقة تشير إلى عماء مطلق أو حالة ما قبل الخلق أو الولادة(3)، إذن فالتجانس المكاني بعد كسره يحيل لحقيقة ما قبل الخلق أو الولادة، أي إن التجانس المكاني بعد كسره يحيل لحقيقة فقدت عذريتها ولابد من تعيين النقطة أو السرّة التي ستكون نواة للقرية أو المدينة بصفتها مكانا آمنا ومقدسا حتى يمارس فيه الإنسان  حياته بشقيها المادي والروحي، إن معاملة المكان بصفته جسدا يستوجب تأشير محطات معينة فيه ليتقلد المقدس صولجانه ويمارس سلطاته الإلهية كي يعمل على إطفاء الاحتياجات والجذوات الروحية العميقة للإنسان القديم بكل عفويتها وارتداداتها النفسية الخالصة، ولما يتوسم المكان بهذه الشواخص البنائية فإن وظيفة الأبراج والقمم التي تعتلي بيوت الآلهة من معابد وزقورات هي محاولة التقرب من السماء وأهلها (الآلهة)، وهذا الفعل في حقيقته البعيدة  إنما يعبر عن رغبة روحية عند الإنسان القديم للتقرب للمتعالي عن طريق وصل ما هو مقطوع وفتح الدروب بين أهل الأرض والسماء بكل قدسيتها وتعاليها.
  كذلك فالزمان بصفته تجانسا مطلقا كان يجب كسره أولا ومن ثم القبض عليه وتأشيره، وهذا يحصل أو ينفذه الإنسان عن طريق الكشف عن إيقاعه أي تحديد (أكبر وحدة مكررة فيه، وإذ يتم ذلك نجد طقوسا مثيرة للانفلات من قبضة التجانس الزماني، فالسنة الشمسية بصفتها أكبر وحدة زمنية تتكرر دوريا، فالاحتفال بانتهائها وبداية دورة شمسية جديدة (سنة جديدة) إنما هي طقوس ومراسيم يتوسلها الإنسان للإمساك بالزمن، وهو ما يفعله الإنسان الحديث أيضا وقد يفعله وهو لا يعي مغزاه الميثيولوجي المذكور.
    إذن فالمقدس يتمظهر بهيئة مكانية وتحيلنا إليها (بيوت الآلهة)، ويتمظهر بهيئة زمانية على شكل أعياد واحتفالات تصاحبها أعمال غير عادية مثل التوقف عن العمل وإقامة الولائم والشراب وإغداق الهدايا والنذور والأضاحي على الآلهة وبيوت الدين، وهذا الفعل مستمر حتى يومنا هذا رغم تغير وانزياح المقدس السماوي إلى نظيره الأرضي عند الدنيويين من أبناء هذا العصر.
يقول غاستون باشلار(5):-
 (اذا كان لا بد من وجود فلسفة للشعر، فعليها أن تظهر وتعاد الصور خلال شعر ذي دلالة، عبر التزام كلي بالصورة المنعزلة، وحتى تكون أكثر دقة فإن ذلك يجب أن يتم في لحظة الانتشاء بطزاجة الصورة)، كذلك يرى باشلار(6) (أن العلاقة ليست سببية بين الصورة الشعرية والنمط البدائي (archetype)، وهي ليست صدى للماضي، بل على العكس فمن خلال توهج الصور يتردد الماضي البعيد بالأصداء)، قد يعمد التحليل السايكولومجي لتحديد شخصية الشاعرمن خلال مجموعة الضغوط التي يتعرض لها كالاضطهاد مثلا،  لكن الناقد ليس محللا نفسيا بل محلل نصوص، مما يجعلنا نتساءل لمَ تطفو الصورة الشعرية بصورة مفاجئة وتنتقل الى الوعي كنتاج مباشرة للقلب والروح والوجود الإنساني، وهذا ما يجعلنا نلجأ إلى ظاهراتية الخيال لتحليل النصوص أو بإرجاع مرموزاتها إلى نصوص بعيدة قد تكون أسطورية أو دينية أو غيرها.

عتبة الديوان
    تباغتنا ثريا الديوان/ احتفاءً بالوقت الضائع/(7) بطقس احتفالي مريب، إذ كيف نحتفي بالوقت الضائع؟ وما جدوى الاحتفاء بوقت ضائع؟، إن الشاعرة وهي ترى الوقت يتسرب من بين أصابعها كذرات الرمل محاولة الإمساك به والقبض عليه فهو وقت غير عادي بالنسبة لها رغم ضياعه، فهو يحفر في ذاكرتها طرقاته وأخاديده وأركانه، بل هو يحتل كل ذاكرتها ويكاد يكون عزاءها الوحيد، لذا فهي محتفية به ويمثل زمنا مقدسا بالنسبة لها تقودها إليه أحلام يقظتها وخيالها المرهف أو وعيها الحالم، إذن فالثريا حينما تنطوي على ملفوظ (احتفاء) إنما هو تعبير لاشعوري، وهذا ليس مفاجئا لنا فاللاشعور عند الشاعرة/ ريم قيس كبة/ امتداد طبيعي لللاشعور الجمعي المتوارث لأبناء وادي الرافدين ويقع ضمنه لا شعور الشاعرات العراقيات من أمثال الأكدية إنخيدوانا ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة، وهذه هي إحدى دلالات ملفوظ الاحتفاء التي هي قطعا غير الاحتفال، وذلك لأن مدلول الاحتفاء يعامل الوقت بوصفه شخصا مهما أوزائرا مهما، وهو زمن شخصي وليس زمنا جمعيا، إذن فالمراسيم الاحتفالية هنا ليست عامة يشارك بها الجميع بل هي خاصة ومرتبطة بالمحتفي والمحتفى به حصرا، الشاعرة حين تحتفي بالوقت الضائع لأنه يمر طويلا ومكللا بالانتظار وتحتفي به على طريقتها الخاصة وكما ستكشف عنه قراءتنا لمتن الديوان.

متن الديوان

 وإذ ندخل المتن/ متن الديوان/ نجد أن الشاعرة تنقلنا للبراءة الأولى والطفولة المدهشة حيث ليس هنالك زمن أو مكان متعين، بل نجد توحدا بينهما وكأنهما شيء واحد  أي أننا وجها لوجه أمام الزمكان(8):-
وتسير العقارب
غيرآبهة بانتظار خميس أو أربعاء
تفاجئها فتتوقف: برهة
أو صيفا
أو بساتين زنابق
  فالزمن متمثل بالعقارب لا ينتظر أحدا، ولا يهمه في أي يوم يكون، فالعقارب لا تتوقف، حتى ولو لبرهة واحدة، ولكن الوقت يظهر وجها ويخفي آخر، وهذا يعني أن الزمن/ برهة أو صيفا/ وكذلك المكان أو الفضاء/ بساتين زنابق/ متوحدان أو هما وجهان لعملة واحدة أي بصورة/ زمكان/ ومن هنا يقبض الشعر على حقائق الفيزياء ويؤسطرها شعريا، وقد نجد الزمن نفسه متوحدا بالحدث(9):-
من أول الغيث حتى انبلاج العواصف
 وهنا يؤطر الزمن شعريا بين بداية المطر وينتهي بنهاية العواصف، إنه زمن رجراج أقرب للعماء منه إلى الوجود، ويبدو أن العزلة التي تتحرك في محيطها الشاعرة تشعرنا بأن الظلام يورق أفعى(10):-
راودت أفعاي صوتي
 كنت حجرا
 فاستجرت بما تبقى في المآذن من شراييني
 وقلت:
 الصمت ميعاد لصوت قد يرن قبيل موتي

أهي أفعى الغواية؟أم أفعى جلجامش؟ تلك التي تسكن جسد الشاعرة بوصفه حجرا، يبدو إنها أفعى الغواية/ فهي تراود صوتها عنها/ إن الشاعرة كمن يستجير من الرمضاء بالنار، فماذا يمكن أن تحمل الشرايين غير الدم المسفوح قرابين وأضحيات للمآذن؟ ولكن ليس هنالك سوى الصمت وأنى للمرأة أن تبوح أو تطلق صوتا في عالم يقمع صوتها، فهي قربان أبدي على مذبح العنف الذي يتمترس خلفه الرجل وهو عنف مقدس  أو لا بد أن يصور بكونه مقدسا رغم انكشاف الحجب عن حقائقه القاسية، وملفوظ (أراود) هنا يحيل إلى لغة قرآنية، وملفوظ (الأفعى ) يحيل إلى أسطورة جلجامش بالرغم من كونها رمزا قرآنيا أيضا ومرتبط بالغواية، ولكن يبقى صمت الشاعرة محملا بأمل في انبلاج صوت ما قبل موتها.
    واذ نتوغل في نصوص الديوان نلمح تجسدا لشهرزاد معاصرة، وهي غير شهرزاد الأمس (شهرزاد ألف ليلة وليلة) فشهرزاد تلك استطاعت أن تبقي حياتها رغم سيف شهريار/ سلطة الذكورة/ المتسلطة على رقبتها كل ليلة، إن المكر الأنثوي البارع كان متمظهرا على شكل قص وسرد شفاهي ملأ الليالي حتى الصباح، إن شهرزاد ألف ليلة وليلة امتداد لعشتار آلهة الجنس والحرب معا التي كانت تمارس الوظيفتين معا، أما شهرزاد المعاصرة فهي تحاول أن تمارس هذه الوظائف مجتمعة ولكنها تبدو عاجزة عن ذلك فشهريارها مفقود رغم توسلها بالكثير من الطرق لاسترجاعه(11):-
الموسم عاد..
فرشت سجادة انتظاري وهيأت المدفأة
 وابتعت أقراص منع الرذيلة
 كي لا تداهمني الفضيلة
 إذ تزل عن مرفئها وتزهق
وتقلع صوب البحر
 شهرزاد هنا معطلة الوظائف، بل ليس لها أية وظيفة، ولا وظيفة لها سوى الانتظار، أما شهريار الزمن المعاصر فهو لا يحمل سيفا، أي إنه أعزل، ولكن صمته هو سيفه، وقوته في أنه لا يأتي أبدا فهو (غودو) وعدم مجيئه يطيل انتظار الشاعرة وليس هنالك سوى آهٍ تطلقها الشاعرة ليتبدد الزمن المحتفى به(12):-
 وآه يا غودو
 دائما ثمة غودو لا يجيء
وهذا يعني أن شهرزاد المعاصرة ترزح تحت نير من الممنوعات والمحرمات وقائمة طويلة من الرذائل والفضائل مرتبطة بوظائفها الأنثوية، بالإضافة الى أنها محاصرة بسيف الصمت الدامي والانتظار المدوي(13):-
ليل
 ستبحث عن وشاحه القرمزي، فلا يلف خصورهن
 سوى خواء
 ونثار أحلام
 وعقارب سكون
      والليل هنا زمكان آخر للإنتظار، والنساء يبحثن عن شيء (قد يكون الوشاح) يذكرهن بالحبيب بعد أن يأسن من الانتظار، ولكن الليل يمضي وليس فيه سوى الخواء و أحلام فارغة غير متحققة وسكون الوقت بعقاربه التي تتكّ وتبدد الزمن ولا يتبقى فيه أية ذكرى،  إذن فالشاعرة ترسم لنا يوتوبيا عصرية، بل هي يوتوبيا ماكرة ومسمومة لا يمكنها إقناع الرجال في البقاء مما يحول حياة النساء إلى صحراء ممعنة بجفافها ومقطعة بالجدران(14):-
يوتوبيا تستجدي سكانها فتات المكوث
 وتمعن تصحرا وجدارا

إن الشاعرة تمعن في التكثيف فهي أضحية لعالم مدهش بهشاشته وسرياليته ومدجج بأبر تقطر ظلمة، فهي لم تعد تبكي على ما مضى من الوقت فما فات قد مات ولكنها وهي تستقرئ المستقبل وما ينتظرها فيه بدت تسفح دمعا عليه فهو زمن سيتبدد أيضا وهذا في الواقع منتهى القنوط، ليس هذا فقط بل نجد الشاعرة تستعير صورة مكثفة متمثلة  ببيت العنكبوت لتنسج فيه ستارة لنافذتها فهي بدأت تخاف الظلمة من كثرة ما عاشت في الظلام(15):-
ما عدت أذرف على ما مضى
 بت أسفح على ما سيجيء

 معك أيها العنكبوت
 سأنسج آخر ستارة لنافذتي
 فإني عصفورة الظلام
 
وهنالك أيضا لعبة الغياب والحضور، التي يمارسها الأحبة وهي تحيل للتلاشي والانطفاء المدقعين، ولكن ما مصير من يلبسون ثوب الغياب ويطلقون رصاصات الوحدة على حياتنا؟ ثم إلى أين الفرار والمدائن متشابهة ولا تحفل بأحزان من يتسرب من بين يديه صباه وإلى غير رجعة(16):-
 إلى أين
 أنى تهافت ظل الفرار؟
 وكل المدائن تلفظ أحزان
 من يستجير بغير صباه
 إن الغائبين حاضرون في أركان الذاكرة وبمجرد ذكرى أو هدية صغيرة تفعـّل حضورهم الأسطوري، إن إبقاء تفاحة من تفاحههم الفردوسي لهو كاف لإطفاء المكابرة الحوائية الفاتنة، إن رجاء الشاعرة بأن تحتفظ بتفاح حبيبها إنما رغبة غير متحققة بل تكاد تكون مستحيلة، فكيف للمسافر أن يبقي تفاحه لكي تقضمه الحبيبة في لحظات شوقها لحبيبها، إنها مجرد أمنية وما ينتظر الشاعرة الذبول حتما عندما لايكون حبيبها قربها( 17):-
هل تسمح أن أبقي تفاحك عندي؟
 أقضمه حين يشاكسني الشوق
 فلا أذبل
 وتعود لتلقاني مفعمة وبكامل تفاحي
     إن نصوص الديوان محتدمة لاحتياز عشتار وظائفها، و / سلطة الأمومة/ تكاد تتفلت من الجمل والكلمات لتعبر عن فورانها، والرموز طافحة بما يقال وبما لا يقال والصورة الشعرية تطفو على سطح الوعي بكامل طزاجتها(18):-
لا تمسك العصا من النصف
 مثلما تلف ذراعيك حول خصري
 فليس عصاك أنثى
 وأنا لست خشبة
فالعصا هنا رمز للذكورة، إن الغياب الذي يمارسه الحبيب سيجعله كمن يمسك العصا من منتصفها مما يعطل وظائفها الجنسية الذكورية، فالعصا ليست أنثى كما أن الشاعرة ليست خشبة لا تتحرك فيها مشاعر الأنوثة الطبيعية.
  إن الصمت الأنثوي خير لغة يتفتق عنها الكلام، فهو لغة متعالية تحاكي (الشمس) بوصفها سلطة ذكورية في كل زمان ومكان، إن صمت الورد (المرأة) يمثل إذعانا طبيعيا لرغبتها في منح العسل (الجنس) لمن يستحقه، ولا شك إن الدلالات التي تدسها الشاعرة في نصها واضحة وبصور شعرية أخاذة، فالورد والنمل والعسل مضافا إليه الصمت والحكايا رموز شعرية تحمل مدلولات مزاحة عن معناها الأصلي وتكشف عن معان عميقة ينبض بها النص(19):-
صمتتْ وردة
 أمطرها النحل حكايا
 وتباروا في قنص العسل
 إن الشعر عالم الصمت بالكلمات (أي بالكتابة) ويبدو أن القمر (سلطة الأنوثة) أكثر جرأة وكتمانا وعنفوانا بالبوح حتى لو كان هذا البوح يسوّر الشاعرة، فهي تتنشق الحب وتسمع الكلمات وتبصر فضول الآخرين بينما حبيبها مكتف بالتفرج على رجولته فليس له القدرة على المبادرة بالبوح (20):-

 أنا أتنشق الحب
 والكلمات
 وفضول الآخرين
 إذ أنت تعبّ دخان رجولتك
 متفرجا
 ولا تجرؤ حتى أن تبوح

إن ديوان ” احتفاء بالوقت الضائع” يقدم نفسه عرابا ” لسلطة القمر” ولشهرزاد الزمن المعاصر، بكل اندحاراتها وانتصاراتها، ويقدم نفسه بجدارة لعدة مستويات من القراءة، مما ينتج قراءات مختلفة ومغايرة تبعا لعدد القراء، ونأمل أن تكون قراءتنا هذه واحدة من القراءات المفترضة.
[email protected]

الهوامش والمصادر

1- حول المغالطة في هذا المصطلح أنظر: كتاب البدائية/تحرير:أشلي مونتاغي- ترد.محمد عصفور- سلسلة عالم المعرفة- ص12.
2- الأسطورة والمعنى- كلود ليفي شتراوس- ترد.شاكر عبد الحميد- دار الشؤون- بغداد- 1986 – انظر ص 35 (يستعير شتراوس مصطلح دون مستوى الكتابة (With out writing) بدلا من المفهوم البدائي.
3- المقدس والدنيوي- مرسيا الياد- ترد:نهاد خياطة- العربي للطباعة والنشر والتوزيع- ص23.
4- م س- ص78.
5- جماليات المكان- جاستون باشلا- تر:غالب هلسا- دار الجاحظ للنشر- بغداد-1980- ص18.
6- م س- ص19.
7- ديوان احتفاء بالوقت  الضائع- ريم قيس كبة- دار الشؤون الثقافية- بغداد- 1999.
8- الديوان – ص56
9- الديوان-  ص36
10- الديوان – ص15
11- الديوان- ص65
12- الديوان – ص65
13- الديوان – ص76
14- الديوان – ص74
15- الديوان – ص85
16- الديوان – ص 115
17- الديوان –  ص122
18- الديوان – ص143
19- الديوان – ص149
20- الديوان –  ص152

أحدث المقالات

أحدث المقالات