23 ديسمبر، 2024 6:19 م

لمحات من  تضحيات النبي إبراهيم والإمام الحسين عليهما السلام

لمحات من  تضحيات النبي إبراهيم والإمام الحسين عليهما السلام

حضرت في ذكرى عيد قوارب التنين الذي يحتفل به الصينيون في كل عام الذي يصادف منتصف شهر حزيران (يونيو)، حيث يستذكرون فيها الشاعر والسياسي الصيني تشيو يوان(340 ق.م.- 278 ق.م.) الذي ضحى بنفسه قبل أكثر من 2000 عام احتجاجا على عدم الاستماع الى نصيحته التي  كان يدعو فيها للحد من ضغط مملكة تشين ومقاومة اعتدائها على مملكته  التي سقطت فيما بعد وتم الاستيلاء عليها  من قبل مملكة تشين عام 278 قبل الميلاد، وأثناء الحديث مع بعض الحاضرين عن موضوع احياء المناسبات والتضحيات التي يقدمها بعض الرموز، وجه لي  صيني مسلم  استفسار:
 عن الأسباب التي جعلت من شخصية الإمام الحسين بن علي عليه السلام  مفخرة عظيمة في التأريخ الإنساني والإسلامي رغم مرور فترة طويلة  على استشهاده ، وبين بعض الأمثلة:  إذ تخصص مساجدنا  في الصين كافة في تقويمها يوما في السنة يسمى )مناسبة عاشوراء ( لإستذكار العاشر من محرم، وهذه المسألة تأريخية وورثناها وتمارس منذ دخول الإسلام إلى الصين،  وهنالك إهتمام إسلامي بالإحتفال بهذه المناسبة لأكثر من عشرة أيام سنويا كما نشاهده في بعض القنوات الفضائية ، وأن كثيرا من الشعوب سمعت عن ثورته ومنها شعبنا  الصيني وقد بين ذلك زعيمنا ماو تسي تونغ عندما سأله مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية المناضل أحمد الشقيري:
 علمني الثورة ياماو؟
 فرد عليه القائد ماو : عندكم ثورة الحسين وتريدني أن اعلمك الثورة.

فبينت له بأن سر بقاء شخصية الأمام الحسين عليه السلام خالدة على الجانب الإنساني  لأنه أوضح شعارا ثوريا يسعى كل الأحرار في العالم الى التعلم منه وتجسيده فقد أعلن منهج (كونوا أحرارا في دنياكم) (لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم أقرار العبيد) والتي تعني بأن الأنسان حر في خياراته العادلة حتى لو اضطر الى التضحية الكاملة اتباعا بتوجيهات الله سبحانه وتعالى الذي خلق الخلق ليقيم الناس العدل بثلاثة شروط وهي الحرية والكرامة والأختيار ، ولا يتحقق العدل إلا اذا كان الأنسان مسؤولا بحيث  يقيم العدل في المجتمع وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على  جميع الأصعدة كما قال الله سبحانه وتعالى

بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل 90)

 وقد أبدل الأمام الحسين عليه السلام كافة المعادلات السائدة إذ انتصر بثورته الدم على السيف التي قام بها في العاشر من محرم عام 61 هجري المصادف 12 تشرين أول (اكتوبر) عام 680 ميلادي، وأصبح  الإمام الحسين عليه السلام عنوانا للتضحية والفداء.
 فأنتم في الصين تحتفلون كل عام  وبعطلة رسمية لمدة ثلاثة أيام بشاعر كتب قصائد وطنية وضحى بنفسه حزنا على إحتلال بلده ولم يواجه المحتل بالسيف، فكيف تتوقع الاحتفال بأبن بنت نبينا محمد صلى الله عليه وآله الذي قدم نفسه مع أفراد عائلته وأصحابه قربانا وواجه جيش جرار لتحقيق مبادئ العدالة لنصرة الحق ووضع مسار الأمة الإسلامية في خطها الصحيح.

وتساءل المسلم  الصيني عن تفاصيل التضحية التي قدمها الإمام الحسين عليه السلام؟
  فبينت له: بأن عطاءه الديني كان غير محدود  وسأعطيك أمثلة مستمدة من ثورته لتنبع من المعاني الأساسية التي أمتثل بها الأنبياء ومنهم النبي إبراهيم عليه السلام حيث عند زيارتنا لقبر الحسين عليه السلام نقول (السلام عليك ياوارث إبراهيم خليل الله) ولنتعرف على ماورثه من هذا النبي الكريم الذي يعد ابو الأنبياء.
 فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بأن النبي إبراهيم عليه السلام أبتلي بعدة امتحانات في دار الدنيا لزيادة ثوابه إذ قال الله سبحانه وتعالى

(وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة 124)
 ومن أنواع هذه الابتلاءات

 أولها : الجانب العقائدي
  حيث جرى المعمول به بأن الأنسان يسير وفق منهج ماهو متوفر في محيطه وخاصة في الجانب العقائدي ويقلد السائد
  (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) (الأنبياء 52 ) (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) (الأنبياء53)
 فوجد النبي إبراهيم عليه السلام  الجميع في قومه يعبد الأصنام وحتى داخل اسرته (أذ كان عمه آزار يصنع الأصنام) ، ولكنه وقف ضد التيار السائد لعدم قناعته بما يؤمنون به
( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام 78)

وعقب المسلم  الصيني بأن ثورة الأمام الحسين قامت في مجتمع إسلامي وليس في مجتمع كافر ؟
 فأوضحت له:
 صحيح كانت في مجتمع إسلامي ولكن حدث انحراف في المبادئ التي شرعها القرآن الكريم وقد أجبرت  الأمة الإسلامية على بيعة يزيد بن معاوية  وأن الأنسان حر في خياراته، فلايحق لأحد أن يفرض عليه بيعة كانت لاتعتمد على دين أو نص او سيرة، وأن البيعة التزام لا يجوز للإنسان سوى كان أب او غيره ان يعطيها لكل من هب ودب، بل أن عليه أن  يمحص في هوية الشخص الذي ينوي مبايعته لأنه مسؤول عنها، وأن للحاكم شروطا لاينبغي تجاهلها، ولهذا أعلن الإمام الحسين عليه السلام بعدم البيعة  وانتشال نفسه والأسلام من الواقع الفاسد السائد،
بقوله :
(أيها الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رآى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالأثم والعدوان فلم يغير ماعليه بفعل ولاقول كان حقا على الله ان يدخله مدخله)،
 وخاطب الجيش الأموي في كربلاء  بقوله :
(أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه فأن السنة قد أميتت وأن البدعة قد احييت وأن تستمعوا قولي وتطيعوا امري أهدكم إلى سبيل الرشاد)
(لا أعطيكم بيدي أعطاء الذليل ولا أقر لكم أقرار العبيد) و (مثلي لا يبايع مثله).

ثانيا : الجانب الجسدي
 تعرض النبي ابراهيم عليه السلام  الى التهديد بالحرق في النار إذا استمر بعدم عبادة الأصنام  حيث جمع ابناء قومه كميات هائلة من الحطب لمدة 40 يوما وهو مقيد لغرض التاثير على معنوياته من اجل الأستسلام لأرادتهم ووصف القرآن الكريم ذلك:
(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (الأنبياء 68)
 ولكنه تحدى أرادتهم وقرر التسليم المطلق لأرادة الله سبحانه وتعالى وقد انقذه الله من تلك النار بعد ان القي فيها:
(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) ( الأنبياء 69)

 واستفسر المسلم  الصيني عن: الابتلاء الجسدي الذي تعرض له الإمام الحسين عليه السلام  ؟
فأجبته: بأن الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه كان عددهم 72 وجندت الدولة الأموية 30000 رجل لقتاله في تلك المعركة الغير متكافئة أمام هذا الحشد الكبير من الجيش من اجل اضعاف معنوياته والأستسلام لإرادة الباطل بالبيعة ليزيد بن معاوية، ولكنه استمد العون من الله سبحانه وتعالى  وخاطب ربه:
 (اللهي أنت ثقتي مع كل كرب ورجائي في كل شدة) وأعلن نفي الرضوخ لأرادة الظلم والفساد والعبودية وقال شعاره المعروف:
 (هيهات منا الذلة).

ثالثا: الجانب النفسي
من أصعب الأمور التي يواجهها الإنسان هي التغرب عن موطنه، إذ ابتلى النبي إبراهيم عليه السلام  بهذا الجانب واضطر الى الهجرة والفرار من قومه في  بابل ليعاني الغربة في الجزيرة العربية حفاظا على دينه.
 بينما تعرض الإمام الحسين عليه السلام إلى نفس البلاء وهو الهجرة من المدينة المنورة موضع نزول الملائكة وقبر الرسول متجها  إلى مدينة الكوفة التي منع من الدخول اليها فواصل السير إلى مدينة كربلاء المقدسة في العراق حيث استشهد وعائلته واصحابه فيها.
 
رابعا :الجانب العاطفي
 ابتلي النبي إبراهيم عليه السلام بتقديم اعز مايملك وهو ولده اسماعيل فداءا لبيت الله الحرام فسأل ابنه عن تطبيق الرؤيا بذبحه فوافق ولده
( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات102)
 (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات 105)
وعندما قرر النبي إبراهيم عليه السلام تنفيذ الرؤيا ليذبح ولده إسماعيل ووضع السكين على رقبته نزل جبرائيل عليه السلام  بكبش من السماء ليفديه
 (وفديناه بذبح عظيم) (الصافات 107)
وقد وصف الله تعالى ذلك بالبلاء الكبير  (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) (الصافات 106)
أما الإمام الحسين عليه السلام فقد استفاد من مبادئ النبي أبراهيم عليه السلام وضحى بنفسه وبولده علي الأكبر وبقية افراد عائلته واصحابه فداء للدين الاسلامي، فانظر الى حجم الابتلاء الذي وقع على الإمام الحسين عليه السلام.
خامسا :الجانب الفسلجي
إن حاجة الإنسان للماء أساسية للحياة، وعانى اسماعيل من العطش وهو صغير السن أثناء انتظار أمه هاجر زوجها النبي ابراهيم عليه السلام  فاصبحت في حيرة وأخذت بالسعي  بين جبلي الصفاء والمروة قرب الحرم الشريف في مكة المكرمة بحثا عن الماء، حيث أستجاب الله لها وتدفق ماء زمزم من تحت أرجل اسماعيل، كما جعل الله سبحانه ذلك السعي بين الصفاء والمروة من احدى مراسم الحج حيث يسعى الحاج سبع مرات استذكارا لعطش اسماعيل
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة 158)

فتساءل المسلم  الصيني وهل تعرض الحسين عليه السلام الى العطش ولديكم نهري دجلة والفرات؟
فأجبته بأنه ليس لوحده، بل تعرض أفراد عائلته   وأصحابه جميعهم الى العطش في كربلاء ومنع عليهم الحصول على الماء حتى ان أخيه العباس عليه السلام استشهد وهو يحاول جلب الماء للأطفال، واستشهد جميع الرجال  وهم عطاشى دون أن  يستسلموا لإرادة الباطل ، وبقى النساء واالأطفال  بدون ماء حتى بعد انتهاء المعركة.

وفي نهاية الحوار أدرك المسلم الصيني حجم التضحية التي قدمها الإمام الحسين عليه السلام مقارنة ببقية المضحين  وقال نحن لدينا شاعر نستذكر موته سنويا ونقيم الاحتفالات الكبرى حيث تقام مراسم تقديم القرابين بحضور آلاف الناس قرب قبره الذي يكتظ بمئات الشعراء من انحاء الصين وهم ينشدون قصائد الشاعر أكراما له.

فقلت له لماذا تسموا ذكرى موت شاعركم بعيد قوارب التنين ؟
فقال: لأن  الصينيين في ذلك الوقت ركبوا القوارب للبحث عن الشاعر الذي القى بنفسه الى الماء من أجل انقاذه أو الاحتفاظ بجثته في النهر من خلال أحداث ضوضاء عالية لإخافة الأسماك، وأسقطوا كرات الأرز والبيض في النهر لإغرائها بالأبتعاد عن جثته، لهذا  تقام سنويا مسابقة سباق قوارب التي تحمل صورة التنين التي اصبحت مسابقة دولية في اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى في جنوب شرق آسيا  أضافة إلى الصين إحياء  لذكرى الشاعر  تشيو يوان، أما عن سر اختيار التنين رمزا لذلك العيد يعود إلى معتقدات شعبية تنص بأن الأنهار مسكونة به وهو الذي يخشى منه أن يأكل جسم الشاعر.

فأجبته: إن أروع ما شاهدته من خلال معيشتي معكم في الصين هو اهتمامكم بتراثكم وتخليدكم لعظمائكم والاحتفال بذكراهم وحتى تعلموا أطفالكم منذ سن الروضة المبادئ التي كافحوا من أجلها، ولديكم القدرة على الاستفادة من تأريخكم لما يخدم الحاضر ليبني المستقبل،
  وتصور بأن يواجه بالنقد في مجتماعتنا الأسلامية لمن يحتفل بمناسبات دينية وبشخصيات مهمة ومنها شخصية الأمام الحسين عليه السلام حتى ان البعض يعلن بان الحسين افضل منا ودخل الجنة فلماذا نحتفل ونحزن بذكراه؟
 وكيف تتوقع عدم الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قدم كل شئ لنصرة الدين الإسلامي والاستفادة من هذه الذكرى العظيمة لأحقاق الحق وخذل الباطل، واذا كان للتأريخ أن يقف وقفة أجلال أمام اروع أمثولة للشموخ والبطولة والتضحية فشموخ الإمام الحسين عليه السلام وتضحيته هي الأساس؟.

 وفي نهاية الحوار تفهم المسلم الصيني عظم ثورة الحسين عليه السلام وأبدى رغبته باحياء ذكرى استشهاده  ولزيارة قبره في أية فرصة تتاح له حيث عبر عن شعوره بان هنالك ازدحام شديد عند زيارة قبر الشاعر تشيو يوان الذي توفي قبل 2000 عام وقبر الزعيم الصني  ماو تسي تونغ  الذي قام ثورة في الصين عام 1949 اما الأمام الحسين عليه السلام  فإن ثورته عالمية ممتدة منذ 1400 عام وستستمر مدى التأريخ .

*أكاديمي عراقي