23 ديسمبر، 2024 9:35 م

حكاية المستعمرات الإيرانية الجديدة

حكاية المستعمرات الإيرانية الجديدة

في كل مرة كنا نكتب فيها أن العراق مستعمرة إيرانية كانت تهب علينا عواصف الشتائم ورياح الضغينة وأفانين الاتهامات بالطائفية والعمالة من جيوش مجيشة من كتاب ومعلقين تنضح تعليقاتهم وردودهم بطعم واحد هو طعم الغرور الفارسي القومي المتعالي على غيرهم من الأمم، والناظر إلينا بعين السيد إلى المَسود، والقوي إلى الضعيف، والمحتل إلى أسراه وعبيده ورعاياه.
ومع الزمن كنا نكتشف أن كثيرا من هؤلاء المعلقين والكتاب معتمدون لدى فيالق الولي الفقيه، ومخابرات بشار الأسد، لا ينطقون إلا بوقت واحد، وقول واحد، ولغة واحدة. نعرفهم من أسمائهم المستعارة وألفاظهم السوقية البذيئة، وأفكارهم الطائفية الظلامية المقيتة، وشعاراتهم (المُمانعة) المملة الفارغة.
وحين كنا ندق أجراس الخطر من تابعية المالكي لإيران و(تقيته) التي تتفنن في إظهار ديكتاتوريته ديمقراطية، وإيرانيته أمريكية، كان أعوانه المقربون الراقصون على حبال ٍ كثيرة قبل حباله، والراكضون وراء مراكب عديدة قبل مركبه المجزي، يشتموننا بقوة وحماس، وينكرون ذلك جملة وتفصيلا، ويعلنون أنه القائد الوطني الشريف العفيف المخلص الوفي الذي لم تلد عراقية قبلَه أحدا،  ولا بعده.
إلى أن جاء قائد فيلق القدس الإيراني، العميد قاسم سليماني، ليعلن ” أن نظام سيده الولي الفقيه حاضرٌ في الجنوب اللبناني والعراق، وأن هذين البلدين يخضعان بشكل أو آخر لإرادة طهران وأفكارها”. زاعما ” أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإمكانها تنظيم أي حركة تؤدي إلى تشكيل حكومات إسلامية هناك، بغية مكافحة الاستكبار”. حسب تعبيره.
لم يكن هذا الإعلان (نقلا عن)،  ولا ( ذكرت مصادر مقربة) ولا (صرح مصدر رفض ذكر اسمه). بل إن تصريحاته النارية المغرورة العنجهية المتعالية تلك نقلتها وكالة نصف حكومية اسمها “إيسنا” الايرانية للأنباء، من ندوة تحت عنوان “الشباب والوعي الإسلامي” بحضور شباب عرب من دول شهدت ثورات ضد أنظمة حكمها الديكتاتورية الساقطة.
الآن، وبعد هذا الإعلان الخطير، لم يعد لأحد من الكتاب والمعلقين المخابراتيين من حجة أو ذريعة لكي (ينبس ببنت شفة)، على رأي اللغويين العرب القدامى.
فالعراق مستعمرة، ولبنان مستعمرة، وعربستان مستعمرة، والبحرين مستعمرة، وفلسطين مستعمرة، وربما الإمارات والسعودية ومصر وتونس وليبيا وغيرها.
أما عن سوريا فإليكم ما قاله قاسمي الذي يتلقى أوامره مباشرة من المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي: ” إن الشعب السوري موالٍ للحكومة بالكامل، وإن مؤيدي المعارضة لم يستطيعوا تنظيم تجمع مليوني واحد ضد الحكومة”.
وحول الثورات العربية، زعم سليماني أنها تأخذ طابعا إسلاميا، رويدا رويدا، وتتبلور مع مرور الزمان على شاكلة الثورة الإسلامية الإيرانية، مشيرا إلى إن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإمكانها التحكم في هذه الثورات لتوجهها نحو العدو، وإن هذه الإمكانية متوافرة في الأردن”.
واستطرد قائلا: “إن الأعداء يحاولون تضييق الساحة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفرض تكلفة باهضة الثمن عليها، ولكن هذه الندوة فرصة لكي يسافر الآلاف من الشباب الذين لهم دور مؤثر في حراك الوعي الإسلامي إلى إيران، بغية التخلص من الحساسية الناجمة عن “ايرانوفوبيا” حيث سيتمكن هؤلاء الشباب من مشاهدة حكومة اسلامية أنشئت على أسس دينية في إيران”.
طبعا لا يمكن أخذ هذا الكلام مأخذ الجد، بقدر ما يمكن اعتباره ادعاءات فارغة من (شبيح) جاهل أحمق مغرور لا يفقه ما يقول. فحتى لو كان ما يزعمه صحيحا، فلم يكن عليه الإفصاح عنه، لو كان سياسيا حاذقا وحكيما وواثقا مما يدعيه.
وتذكرون كيف كان صدام حسين يوحي لشعبه وللعالم بأنه يخفي، فعلا وواقعا، أسحلة ًكيماوية وجرثومية سوف يستعملها عند الضرورة. وكان يتحمل قرارات مجلس الأمن القاسية، واتهامات لجنة الطاقة الدولية، وعقوبات أمريكا وأوربا الخانقة، بعناد منقطع النظير، ويتلاعب بالمفتشين الدوليين، ويناور ويراوغ، حتى أصبح العراقيون كلهم، والعرب كلهم، والأجانب كلهم، محبين وعشاقا وخصوما ومعارضين، على حد سواء، متيقنين تمام اليقين بأن لديه ما يستحق هذا الثمن الباهض للتستر على ذلك المجهول.
لكن، ومنذ دخول أول دبابة أمريكية غازية إلى ميناء أم قصر، كان مناصروه وعشاقه يترقبون المارد العظيم كي يخرج من قمقمه المخيف. كما كان غُزاة عرينه الحصين يتوجسون خيفة من أسلحة دمار شامل غير مألوفة سوف يفاجؤهم بها بين ساعة وأخرى، ليجعل دباباتهم كعصفٍ مأكول، ومواكبَ جنودهم عظاما متناثرة محترقة.
لكن الذي حدث أن دبابات الغزاة دخلت ساحة الفردوس، ثم وراح كبار أقاربه وأعوانه الأشاوس يرمون ملابسهم العسكرية، ويرتدي بعضهم دشاديش، وبعضهم ملابس نساء، ويتفرقون في المزارع والخرائب. ثم هرب ولداه، واختفى هو عن العيون. وفي النهاية قتل قصي وعدي، وألقي القبض عليه في حفرة مظلمة في بستان.
ثم نكتشف بعد كل تلك المسخرة أنه كان (تهّام) روحهِ بالسلاح السري المزدوج، وأنه لم يكن في أواخر أيامه سوى عصفور منتوف الريش، لا يهش سوى على الفقراء المساكين، ولا ينش سوى على المستضعفين. وحين سأله سائل في معتقله قبل شنقه بحبالٍ إيرانية متينة قال إنه كان يتظاهر بامتلاك السلاح الخفي لإرهاب إيران ولمنعها من غزوه من جديد.
لا يعني هذا الكلام عن (نفخات) صدام حسين الخائبة أننا نبريء إيران من عبثها بالعراق، ولا أن ُنخلي طرف المالكي وحكومته، ولا أن نعفو عن أحزاب الائتلاف الوطني ومليشياته، بل نعترف بأن فيلق القدس هو المسبب القوي لكل خراب في البصرة والناصرية والنجف وكربلاء والحلة والديوانية وبغداد والرمادي والموصل وتكريت وسامراء وباقي مدن العراق وقراه. وهو المحرك الحقيقي لجميع العصابات والمليشيات العابثة المجرمة، وأن العراق، في عهد هؤلاء المُولـَّـدين بأنابيب الولي الفقيه، مستعمرة إيرانية خالصة، ولكن إلى حين.
فهي سعىت وتسعى دائما إلى جعل العراق مستعمرة مستسلمة لها إلى الأبد، لكونه، بحكم موقعه الخطير، يمكن أن يصبح سكين خاصرة في جنبها. وإذا لم يقم بدور المحرك القوي لعواصف الثورة الديمقراطية فيها فقد يكون جسر الراغبين الآخرين في زعزعة أمن نظامها، وبالتالي إسقاطه، وإعادة إيران دولة مدنية آمنة مستقرة، بناءة لا هدامة، في المنطقة.
إن لإيران، في طموحها غير المشروع ذاك، دافعْين قوييْن ثابتين، هما، أولا، نزوعُها القومي الفارسي المغلف بعباءة الطائفة، والساعي إلى تحويل الشيعة العراقيين العرب إلى طابور خامس يخدم مصالحها وأهدافها الاستراتيجية العليا.
أما الثاني فهو حاجة (إيران الدولة) إلى تفتيت قوة العراق وتمزيقه وإضعافه وإبقائه ممزقا ومنهكا ومحترقا لئلا تعود له عافيته السابقة أيام كان قادرا على لجم أطماعها الاحتلالية، ووأد نظرية تصدير الثورة إلى الخارج، وإعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية الغابرة.
وفي ضوء الواقع الخانق الحالي الذي يعاني منه الحليف بشار الأسد، وسرطان التآكل المستشري في جسد جيوشه، والاتساع المتلاحق لثورة المدن والقرى السورية المحررة، بما فيها مناطق كانت محسوبة على الطائفة العلوية التي حاول الأسد رشوتها وإغراءها وإيهامها بأن الثورة على نظامه هي سنية ٌ طائفية تستهدفها هي بالأساس، ومع عجز الدعم والإيراني ومليشيات حزب الله المتواصل والمتفاني عن كسر شوكة الثورة، ووقف تسارع انهيار النظام، لابد أن تشعر إيران بأنها توشك أن تفقد الحلقة الوسطى الرابطة بينها وبين مستعمراتها في لبنان وفلسطين.
هذا مع تزايد انعكاسات العقوبات الدولية على اقتصادها المتعثر المُتعَب، وتراجع عملتها، وتوقف صادراتها النفطية والزراعية والصناعية إلى دول المنطقة، وازدياد المخاوف من اندلاع انتفاضة إيرانية في موسم الانتخابات المقبلة.
كل هذه العوامل، مجتمعة، تبررعصبية الولي الفقيه وقائد فيلق القدس وباقي دهاقنة النظام. وما تصريحات سليماني العنترية الخائبة سوى بالونات هوائية فارغة تشبه إلى حد بعيد تلك التهديدات الشمشونية الساخنة التي كان يطلقها صدام حسين في أواخر أيام عهده المطرود.
فالقوي الواثق من قوته وصلابة أرضه وأسباب قوته وجبروته يتكلم قليلا ويفعل كثيرا. يتحصن بالوقار والتواضع والصبر والهدوء، ولا يجادل ولا يفاخر ولا يهدد ولا يباهي.
والخلاصة أن تصريحات سليماني تفضح شعورا طاغيا بالضعف والهوان، وبقرب النهاية الآتية. دون ريب. وهي ضارة نافعة، برغم كل شيء.