في العزف تقنيات. قد توهن الريشة إذ بلغت من العمر نوعا من عتي. ولكن يظل ذلك الرحيق الذي هو عصارة روح ملؤها الطرواة والتراكم والخفة والانثيال. صبا يظل يقاوح الزمن. سامي نسيم من ذلك الرحيق. اذكره حين كان طالبا في معهد الفنون. كانت تقنيته مثل فراشة. ولكن أخذته الحروب بعدها كي تجعله ريشة مابين الفرضة والشعيرة.
عاد بعدها سامي مدرسا. وتلك صفة تتعارض مع الفردية. أن تكون معلما يعني انك للجميع. وان تكون فنانا يعني ان تكون لنفسك. غياب سنوات بين غياهب جب البنادق والرصاص والأشلاء. استخرج نفسه من الجب كأي يوسف وسامح إخوته الذين قتلوا استمراره مع آلة أو اله الموسيقى. لم يأبه لذلك. لم ينكسر.
استعاد ثانية رشاقة اصابعه. والأخيرة كما القلم إن لم تستخدمه يصدأ. لعينة ومتمردة ومطواعة إذا أطعتها. وكأي قلم عليك أن تحكه أو تقشطه. وتعاود أو تواتر اليد على الأوتار. سامي ليس مغامرا ايدلوجيا كي يندرج في أجندات. كان يعتقد أن الإتقان وحده إنقاذ من أقدار لا داعي للتكفل بتداعياتها. الحق أن فيه طبعا ريفيا يظن أن منة كبيرة أن تكون موجودا فقط. أما الإقرار بوجودك فكان نوعا من الرفاهية.
لماذا الإنشادي: لأنه بارع في تلقف تلك القصبة الشاردة من هور منسحق عنوةً، وهو يتيح لك تلمس المقترب إليه من خلال ذلك الاستغفاء الذي يدنو من لسماته الساحرة. نوع من تسرنم مبتغى. لعلي كنت ارتجي أن يكون واحدا من إنتاجه “أطوار” تنويعا على النغم وليس الطور، لأنني على وفق ما اعتقد أن عظمة الطور تشبه الفقه اللغوي: كيفية الاشتقاق من هيكلية معمارية (النغم) بيتا ريفيا مُطعما بآهات تتحشرج وسط بيئة من أصوات أرضية، وعمق الهور. رخامة أصوات الحيوانات الأليفة، رائحة حناء، وصباح يستبشر بالتنور. أصوات الريف كأنها صادرة من عمق تربة، من طين وآبار تروي حكايات عجائز أو آلهة. فيها شي من خرافة منسية، واحتباسات صلوات لم تصل. شذرات إنسان منهك، وامرأة تتهجد طُلعا قاب قوسين أو أدنى من أعناب تتدلى. رائحة دخان لطرد البعوض، رجال أشداء بلون الطين بعقالهم الذي تشتهي الكرة الأرضية أن تستقيم مع تقطيعاته.
مفعم بعراقيته، سامي، وله منها وفيها كل ما يرتجيه رافدان. آهل بصمته على رغم انه واحد من الفنانين المثقفين العراقيين حقا. قارئ ممتاز مطلع، لعله أحيانا ينظر بأسى الى طلبته الذين إن حدثهم عن تشيخوف او دستويفسكي او محمد خضير وحسب الشيخ جعفر، فسيكون الحديث أشبه عن كائنات فضائية وليس عن أدب. لا يبتئس. ولا يكترث. تعلم من غاليلو أن الأرض ستدور. سيعود أولئك الصبية إلى تراث روحهم وبلدهم يوما ما. إنما يلزمه أن يعطي الإشارة. ثمة شيء ما يحيل إلى شيء أعمق.
ابتكر ابن نسيم الفرقة العودية، فرقة تستنشق عطر منير بشير كي تديمه وتستديمه. وكان الجديد أن ما من آلة تدخل سوى العود. ووزع آليا وهارمونيا ولو بحد ما من ناحية الأخير (الهاروموني). كي يضع العود في تاريخ الموسيقى ثانية، بعد ان كان العود على وشك أن يدخل تاريخ المتحف. لا اعتقد انه كان راضيا بما يكفي عن سلوك الموسيقار الكبير منير بشير. فهو كان اسما لا يُحتمل. ولكنه اسمه يكفي لاحتمال الإرث الكبير الذي تركه ذلك الاسم: كبرياء الموسيقى. وقوة الشخصية التي جعلت آلة تصبح طقسا.
برع منير بشير بفن الارتجال. ولكن الفرقة التي أنشأها سامي لا ارتجال فيها. إذ تقدم معزوفات متقنة وجماعية. ربما كان يشاكس أستاذه مشاكسة مستحبة: كنت منفردا أيها المعلم ولكنني جماعي وبفرقة ومعلم أيضا. بالطبع لم يدع أستاذ منير بشير اي الشريف محيي الدين حيدر ، ذلك الإرث الرمزي الذي خلفه منير بشير على مستوى الاستذواق الشعبي. كان الشريف ارستقراطيا، وأشبه بقنصلية مفتوحة في عالم الشرق، فيما كان منير وشقيقه جميل بشير اقرب إلى محلية تستدرج تلك التقنية الأوربية إلى تبيئة وأقلمة مستملحة عراقيا وعربيا. ورغم انه اقرب إلى جميل بشير منه الى شقيقه، لان معظم العازفين يحبون جميل أكثر من بشير، إلا أن سامي عرف غواية الاسم. فمنير أكثر شهرة، وأكثر استدامة في الحضور في الذاكرة العراقية والعربية (رحل جميل المبدع مبكرا مثل السياب ونيتشه وموتزارت). سامي نسيم معلم مخلص، ومبدع عراقي له اسمه الآن، وقد حفر اسمه سلفا في مدونات الما بعد، بالتأكيد.