* “السياسة ، جرذ بأسنان حادة تقضم حياتنا، وقد نعتها أحدهم، إنها عاهر لا تستحي ، فعلاً…. و صدق من قال ذلك ….!”
قلتها -وأنا ومهوس ومأخوذ بغرابة المشهد- أكاد أجن أمام موقف لا يصدقه ، حتى الصدق نفسه ، إلا وإن يقف موقفي بزمكانية وواقعية كاملة، حتى السماء تهدر غضباً في ذاك اليوم ، و ألقت دموعها مزن من غيث ينتحب، يغسل بنحيبه جزءاً من ذنوبنا نحن أشباه البشر ، هل يمكن ذلك ، تروم أن تغرق أدران الشر في فيضها الحانق ، غيم اكتظ بتدافع وهياج عنيف، قرقعة ووميض يصدر من اصطدام أكتاف تلك الغيوم الغاضبة ، وكأنها تهدد بالنزول نحو المكان لتعلن استنكارها بقبضات عنيفة ، ربما ستسحق أسباب المشهد تحت أقدامها الغاضبة….
وأرى من بعيد حزمة من شمس، تعوم في ازدحام الغيوم الهائج، لتحفر لها نفقاً لتعبر من خلاله نحو الموقف الرهيب، صرير الريح، الباكي والمنتحب بعبرات وآهات باردة تقذفها أفواهها حمماً من نار جليدية تجمد الأطراف وترسم فوق الوجوه احمرار صعود الدم نحو الوجوه، فكل شي مهدد بالانفجار ، سيحل بلاء حتماً ، لو أشعل أحدهم عود ثقاب لحلت الكارثة….
عائلة موصلية ، أطرها الموقف لوحة عراقية تفوق الموناليزا غرابة، ليس في الابتسام بل بشدة الحزن والتحمل والصبر، ذنبها فقط أنها موصلية ، فرت من الظلم و شدة القصف والموت ، مسكها وكلاء الموت والدم ، وقرروا إعدامها، شابين و أب وأم، وقفوا بالدور بانتظار الذبح ، لم يتكلم أحد من هول الموقف ، فطلب الأب من برميل القمامة الكبير أن يسمح له بفرض صلاة الظهر ، أثناء قيام تلك الحيوانات بهذا الواجب المقدس، وبدأ الأب بالصلاة ، ذبحوا ولده الأول ، ووضعوه أمامَهُ، وهو لم يهتز، واستمر في صلاته، فقط سمعت صرخة الأم وشدة وقوعها على الأرض ، وذبح الثاني ووضعوه أمام الرجل ، ولم يهتز له عضو أو جفن ، حتى انتهى من صلاته
وقرأ دعاءه، ثم نزع معطفه وتهيأ للذبح ، العجيب بالأمر أن تلك الحيونات البشرية لم تنتبه لإيمان الرجل وتمسكه بالإسلام الذي يدعون أنهم احتلوا البلد من أجل إعادتنا نحن المرتدون إليه ، فقد انتبهوا لعدم اهتمامه لما حدث لعائلته ، واعتبروا ذلك وقاحة، وعدم اهتمام منه بما يحل بعائلته التي يفترض أن يكون هو مسؤول عن حمايتها والقتال من أجلها ، فصاح به الحيوان الكبير أمام الناس المكتظين في جهتي الشارع حول الموقف :
-” يا لك من كافر مرتد عن الإسلام ، فقد ذبحنا أبناءك ولم يهتز لك جفن ، يا لك من رجل قاسي القلب …..!؟”
ضحك الرجل بقهقهة واضحة ودون اهتمام وقال :
-” لا ياولدي ، أنا و أنتم وأولادي ، زرع الله في أرضه ، زرعه وآن حصاده ، وليس لي أن أسأل الله متى يحصد ، و بأي منجل سيحصد ، إن حصده بمنجله ، فهذا أمر حتمي علينا، وهو نهايتنا الطبيعية، وإن حصده منجل الشر ، فهذا المنجل ، بعيد عن الله وليس بأمره ، وإنما بأمر الشيطان ، حينها حصتنا الجنة …..!؟”
بالطبع لم تفهم تلك الثلة من الحيونات كلام هذا الإنسان ، كلمة ” الشيطان” التي نطقها الرجل جعلتني أذهب بعيداً في مخيلتي إلى شياطين السياسة ، الذين باعوا أبناء وطنهم وسلموا أهلهم وأبناء جلدتهم ، أبناء الموصل لمجرم أجنبي ، من أجل كرسي ذليل طالبوا به ، وترى نباحهم من خارج الحدود، ولم يكفوا عن هذا النباح، المشكلة باسم ضحاياهم وسلعتهم التي باعوها رخيصة ، من هؤلاء الناس؟ أبناء جلدتهم الذين مزقهم الجوع والبرد والتشرد والذبح وانتهاك الحرمات ، تعالى صوت تفكيري حتى كاد أن يكون مسموعاً، لكن الحمد لله ، لم يسمعه حيوانات الذبح ، لكان مصيري ، كمصير هذا الرجل وعائلته :
-” الا يخجلوا هؤلاء السياسيون ، ويكفوا عن النباح على الاقل ، هم السبب بما يحصل لنا ، وهذا هو نتاج نباحهم ….!؟”
ذهب الرجل بنفسه للذباح، وهيّأ رقبته للذبح وطلب منه قائلاً :
-” تفضل يا ولدي ، أكمل عملك ، أنا جاهز أتوق للشهادة وأتوق للّحاق بأولادي في فردوس الله ، جزاكم الله خيراً عنا ، فإن الله أرحم بعباده من المتجبرين…..!؟
ارتبك الذباح وتردد ، وهمس بمسامع حيوانهم الأكبر الذي ضحك بفخر وانتصار وقال:
-” نحن لسنا مثلك قساة أيها المرتد ، ونحن نعرف الإسلام أفضل منك ، لكن سنحرمك من الجنة و الي الابد، لقاء وقاحتك وعدم اهتمامك بذبح أبنائك….!!”
ما أثار استغرابي و وسوس فضولي ، أن الرجل كان صلباً، وعندما استثنوه من الذبح ، ضعف جدّاً وبدأ يتوسل لهم أن يذبحوه ، وبدأ يهرول خلفهم ليستجدي الذبح ، أثارني هذا الموقف الغريب كثيراً ، فمسكته وسحبته نحو الرصيف وقلت :
-” لماذا تفعل ذلك يا رجل ، وقد عفوا عنك ….!؟”
تعوذ الرجل بالله وقال:
-” يا ولدي ، أنا لم أندم على أولادي ، لأن الله هو من خلقهم وهو من أخذهم، وليس لي اعتراض على حكمه ، فهم ذهبوا إليه وتحت رعايته ، والله أرحم الراحمين ، وأنا أتوق للذبح لأكون تحت رعايته ، وليس في رعاية الشيطان إن بقيت حياً….!؟”
هزني هذا الموقف كثيراً وانفلتت دمعتي لتشارك غيث السماء …..