أتعجب كثيرا من شدة إستخفاف الدولة بمعاناة الناس ، والمتاجرة بآلامهم وبخس حقوقهم وإهمالهم ، وكف يدها تماما عن رعايتهم ، بل نراها ترفع يدها عن كل أشكال دعمهم ، ثم إبتزازهم من خلال الفساد المستشري في كل مرافقها ، مع الغلاء الشامل للمعيشة والفواتير لخدمات عوراء كأجور الكهرباء الخيالية والأسوأ على الإطلاق هذا الشتاء ، وأثمان الوقود الأغلى في الشرق الأوسط والأسوأ في العالم حتى بين الدول المستهلكة (لا المصدّرة) للنفط ! ، إنها بحق دولة قامت على إستنزاف المواطن وعدم إحترامه ، وتكديس المزيد من همومه التي لا تُعد ولا تُحصى بدلا من مجرد تفكير جدي ، في محاولة تفريجها ! .
قائمة المضايقات والعوائق التي تضعها الدولة في وجه المواطن لا نهاية لها تحت شعار الهاجس الأمني الذي فشلت دوما في مواجهته ، هاجس طالما تمخضت عنه إجراءات أمنية كسيحة بمنتهى التخلف والسذاجة والغباء ، لهذا لم تنجح حتى في إبطاء عجلة الأرهاب والتوتر الأمني الذي يراه رجل الشارع وكأنه يصب لصالح الدولة ! ، فيدفع المواطن ثمن هذا التخلف والنظر الآني القصير واللامهني من حياته وراحته وكرامته وماله ووقته .
من مفردات هذه القائمة القبيحة والطويلة هي ظاهرة الزحامات المرورية اللامبررة ، أكثر من مليون لتر من (البنزين) السيء جدا ، هو قيمة الهدر اليومي لهذه المادة بسبب سيطرات لا فائدة منها سوى كونها مجرد (مضيق) على سيارات عابري السبيل ، زائدة دودية ملتهبة لا يشكو ألمها إلا السائق وربما شرطي السيطرة ، فكلاهما يعاني من الملل والرتابة والبيروقراطية القاتلة وجهد عقيم ومضيعة للوقت ، كلاهما يعلم أن لا طائل من هذه السيطرات التي وعدنا السيد رئيس الوزراء أكثر من مرّة بإزالتها ، وبدلا عن ذلك تكاثرت كالجراثيم ، متحدية كلمة السيد رئيس الوزراء الذي يبدو أنه تملّص من كل وعوده ، والمواطن يتسائل ، إذا كانت كلمة أكبر رأس في الدولة غير محترمة من قبل أصغر الجهات ، فكيف سيوجّه دفة الوطن ، ما هو دور طاقمه الحكومي ووزاراته ؟!.
إن تكديس السيطرات وغلق المنافذ هو حقا أستراتيجية مريضة وغبية ومتخلفة لا تعبأ بالمواطن ، فهل يعلمون أنها فرصة ذهبية لأي إنتحاري ملعون ، ليقتل أكبر عدد من الأبرياء بسبب الزحام ، أم هم مَن ينتظر ذلك !؟ ، فنرى الكثير من الشوارع الرئيسية المكتضة بالسيارات المتوقفة لأنه أغلقوا جميع مخارجها ! ، إما كان من الأجدر نصب سيطرات على (مهارب) الجحيم للتخلص من الزحام ؟ هل ينقصهم الكادر ؟ ، وكمثال على ذلك الجسر الواصل بين تقاطع معسكر الرشيد وبغداد الجديدة ، كانت السيارات تتحرك حرفيا في بعض الأحيان مترا واحدا كل بضع دقائق ، واستغرق وصولي إلى بغداد الجديدة ساعة ونصف لمسافة لا تزيد عن كيلومتر ونصف الكيلومتر ، لأن (الأفندية) أغلقوا منذ زمن بعيد أهم مسرب للسيارات في نهاية الجسر ، وهو مسرب مركز شرطة (الألف دار) ، وسط قلقي الشديد من نفاذ وقود سيارتي في قلب المعمعة .
خلف سيارتي كانت ثمة (سايبة) أصابتني بالصداع لأن صاحبها لا يكف عن التزمير كلما تأخرت بضع (سنتمترات) عن (دعامية) السيارة التي امامي ، وقريبا مني وقع حادث تصادم خفيف ، نتج عنه أنواع السباب والشتائم والكلمات النابية والتهديدات وتحول إلى الإشتباك بالأيدي ، جعلني حقا أيأس من أخلاق الناس التي تغيرت ! ، هكذا صار طابور السيارات المبتلية مرتعا يعج بمئات المتسولين ، ما بين عاهات حقيقية ومزيفة ، ومنهم على كراسٍ متحركة ، نساء يحملن أطفالهن ، أطفال يرشون الزجاج الأمامي ، فيزيدوا الزجاج إتساخا ، ويتعكر المشهد المتعكّر أصلا من خلالها ، باعة إبتكروا (چنابر) ضيقة على عجلات تلائم السير بين السيارات ، تحمل أنواع القلائد والسّبَح والمداليات ، الكثير من الشباب يحملون (ترامز) الشاي ، والبعض يبيع (خرق) تنظيف السيارات ، شباب يحملون مكبرات صوت ، للترويج (بالسي دي) بزعيق عال جدا يخدش الأذن لأغانٍ عجيبة غريبة غير صالحة للبث من الإذاعات ! ، عدا مروجي كارتات الموبايل ، شيوخ بعمر الأجداد يبعون (الكلينكس) و(النساتل) ، إنهم كبار في نظري لأنهم يطلبون لقمة حلالا وإن كانت مُرّة وفي هذا البرد القارص ، هم نظاف في نظري وإن اتسخت جلابيبهم ، هم أنظف بكثير من سياسي ببدلة أنيقة تضم بين جنباتها جيفة ! ، هكذا تحول هذا الطابور المميت إلى سوق متحرك تعلوا فيه أصوات المروّجين وكلمات الإستجداء على هدير المحركات وقرقعة (الأدوانس) بسبب رداءة الوقود ، والهواء السام والملوّث ، وترى الغالبية من السائقين صابرين على نهج الإستخفاف هذا حتى إعتادوا عليه .
أخيرا أتى الفرج بالمرور من عنق الزجاجة – السيطرة ، كان هنالك شرطيان لا هم لهم سوى تعنيف السائق الذي يمرق من أمامهم مسرعا ! ، فعليك المرور من أمامهم وأنت تتهادى بسيارتك متصنعا الإبتسامة وتؤدي لهم الإحترامات رغم كل المآسي والتعب وهو يواجهك بوجه متجهم عبوس ، وبعد السيطرة كان الشارع خاليا تماما ! ، كان ثمة منفذين في تقاطع (سينما البيضاء) ، أحدهما يمينا حيث سوق بغداد الجديدة ، فوجدتهم وقد أغلقوه بمبردة هواء صدئة (من السكراب) وكرسي مكسور ! ، والثاني يسارا حيث منطقة (الغدير) ، وقد أغلقوه منذ زمن بعيد بصبّات كونكريتية لم تفدنا بشيء سوى أزدياد وتيرة الإنفجارات على أثرها ! ، وما كان عليّ سوى سلوك الطريق الوحيد الذي حددته لي عقليتهم المريضة الغير مسؤولة ، أخيرا وصلت لتقاطع معروف بإسم (محلات الحذاء الذهبي) ، فوجدته مغلقا ! ، وقد تكدست السيارات عنده أيضا وعدت للدخول في إختناق آخر ، ولساعة كاملة أخرى ! ، هكذا استغرقت ساعتان ونصف للوصول لوجهتي التي من المفترض أن لا تزيد عن 10 دقائق ! ، فوجدت نفسي وقد أبتعدتُ شوطا بعيدا عن وجهتي وأنا أعض أناملي غيظا وحنقا وغضبا ، لاعنا ساعة ولادتي ، لأني لم أكمل مشواري مشيا بدلا من أصطحاب سيارتي ، هكذا تحولت السيارة في بلد العجائب من سلعة ترفيهية ضرورية تبسط الحياة وقد كانت كاليد والقدم ، إلى عبء كبير لا تفيدك عندما تحين الحاجة إليها ، بشوارع لم تعرف الصيانة وتعاني الحفر والتخسفات وبعدها عن اية صيانة ، وإن خلت من هذه الآفات ، تأتي المطبات التي تجعلني أتسائل ، عن نوع السائقين الذين لا تخفف سرعتهم سوى (مطبة) وليست مراعاة الناس أو الحس بالمسؤولية ! .
حقا أن هذا الطريق صورة مصغرة عن وضع البلد ، بكل ما فيه من ناس أدمنوا الصبر وبالتالي أدمنوا الضيم لأنهم إعتبروه واقعا ، بكل ما فيه من صور الفقر المروّعة والعاهات والإهمال والوساخة والإستنزاف والإستصغار والفساد والتخلف والظلم وسوء التخطيط والعبثية والعشوائية والبيئة المسممة ، حكومة تفتقر بشدة للكرامة والهيبة والإعتداد بالنفس ، إنه صورة عن بلد يهمل الطفولة وينبذ الشباب ويعق الشيوخ ، ويشح على المعوزين ، حكومة كان إنجازها الوحيد والكبير أمام العالم ، أنها أحالت البلد من أغنى البلدان إلى أفقرها ، بوقت قياسي !.