لبرهة قصيرة بدا ان تركيا راجعت مجمل سياساتها ومواقفها حيال العراق، وتراجعت عمّا قدرت أنه كان خاطئًا وسلبيًّا. إلا أن ما تخللته زيارة رئيس الوزراء التركي علي بن يلدريم الى العراق الاسبوع الماضي، وما خرجت به من معطيات ونتائج، بددت مجمل القراءات والتوقعات والتحليلات المتسرعة والمتفائلة، لتختزل صورة حدث الزيارة في مقولة “تمخض الجمل فولد فأرا”.
وبعيدًا عن كثير من التفاصيل والجزئيات والتراكمات، فإن جوهر الأزمة الحالية بين بغداد وانقرة، هو الوجود العسكري التركي على الأراضي العراقية، وتحديدا في قضاء بعشيقة التابع لمحافظة نينوى، هذا الوجود الذي شدد العراق على ضرورة إنهائه، اذا أريد للعلاقات بين الطرفين أن تكون جيدة وايجابية، واصرت تركيا على ابقائه تحت ذريعة حماية امنها القومي.
وشهدت زيارة يلدريم لبغداد، بحث ومناقشة مختلف القضايا التي تهم البلدين، ومن بينها الوجود العسكري التركي، وقد بدت وجهات النظر متفقة ومنسجمة بشأن الملفات الاقتصادية والتجارية والسياحية، الا ملف الوجود العسكري التركي، ظل عائما ومعلقا، بين تصريحات ومواقف متناقضة ومتباعدة.
تضمن البيان الختامي المشترك ثماني نقاط بشأن الزيارة، وما اسفر عنه الاجتماع الثالث للمجلس الاعلى للتعاون الاستراتيجي العراقي التركي، لم يأت بجديد، او بعبارة اخرى لم يتضمن حلا، او رؤية واقعية لمعالجة جوهر الأزمة، ترضي الجانب العراقي.
تكررت عبارة “تركيا لا تسمح بأي عمل يهدد السيادة العراقية ووحدة اراضي العراق”، وانها “ستستمر بالعمل مع العراق والتعاون معه في جميع المجالات”، في مواضع عديدة، دون ان تقابلها اية اشارات مشجعة لنوايا تركية على سحب قواتها من الاراضي العراقية، بل على العكس تماما، بانت مؤشرات وتأكيدات جديدة على ان الجنود الاتراك باقون في بعشيقة حتى يتم القضاء على تنظيم داعش، ويستتب الامن”.
وهذه تعبيرات فضفاضة لا يمكن الركون اليها والاخذ بها، ومن يقرأها ويتأملها بدقة يستشعر ان صناع القرار التركي لا يفكرون اصلا بسحب قوات بلادهم من العراق، لانهم اذا كانوا يتحدثون عن الامن القومي التركي، فإن تنظيم داعش ليس الطرف الوحيد الذي يشكل تهديدا له، وانما قد يشكل حزب العمال الكردستاني (P.K.K) تهديدا اكبر، خصوصا وان وجود ذلك الحزب لم يعد مقتصرا على جبال قنديل، بل انه بات يمتلك وجودا وحضورا وتأثيرا في قضاء سنجار وربما مناطق اخرى.
وقد صرح غير مسؤول تركي مؤخرا، بان بلاده لا يمكن ان تقبل وتتقبل ان تنشئ جبال قنديل اخرى في شمال العراق، في اشارة الى وجود حزب العمال في قضاء سنجار.
وتنقل مصادر قريبة لاجواء المباحثات العراقية-التركية، ان يلدريم قال للعبادي بكل صراحة، “اذا كنتم تريدوننا ان نخرج من بلادكم، فنحن نريد منكم ان تخرجوا حزب العمال منها، حتى يتوقف التهديد لنا”.
ويدرك الساسة الاتراك ان اخراج حزب العمال، صعب للغاية ان لم يكن مستحيلا، وأنهم يحتاجون الى ذريعة لترسيخ وتكريس وجودهم، واكثر من ذلك، التوسع والتمدد، ولن تكون هناك ذريعة لانقرة افضل من الـ(P.K.K).
واذا كانت المجاملات، واللغة الدبلوماسية، قد طغت على اجواء زيارة يلدريم لبغداد، فإنه وما ان غادرها حتى راح الطرفان يتحدثان بوضوح وبعيدا عن الحرج.
رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، قال بالنص بعد مغادرة يلدريم بوقت قصير “أبلغنا رئيس الوزراء التركي أن العلاقات العراقية التركية لا يمكن أن تتقدم خطوة واحدة دون سحب القوات التركية من معسكر بعشيقة”، وكما أن ساسة ومسؤولين وقادة في الحشد الشعبي، واصحاب رأي عراقيين تحدثوا بالمعنى نفسه.
فقد هدد القيادي في الحشد الشعبي جواد الطليباوي انه “في حال بقيت القوات التركية في بعشيقة فاننا سنستخدم القوة لطردها من شمال محافظة نينوى إذا عجزت الدبلوماسية عن اخراجهم”، وعد التصريحات التركية التي رهنت انسحاب القوات بخروج الحشد الشعبي من محيط الموصل، تدخلا سافرا.
في مقابل ذلك، صرح نائب رئيس الوزراء التركي نور الدين جانيكلي، وكأنه يرد على العبادي “ان تركيا تحتفظ بحق اتخاذ إجراءات داخل العراق دفاعا عن نفسها ضد الإرهاب، وان معسكر بعشيقة هناك بسبب الإرهاب الذي ينشأ في العراق ومن حقنا اتخاذ إجراءات ضده”.
وتحدث وزير الدفاع التركي فكري اشيق قائلًا “ان تركيا ستتباحث مع العراق بشأن بعشيقة بعد تطهيرها من داعش، وان بقاء قواتنا في بعشيقة أمر ضروري وسنحل هذا الملف بطريقة ودية”، اي بعبارة اخرى يريد وزير الدفاع التركي ان يقول للحكومة العراقية، “لن نخرج قواتنا من العراق حاليا، وسيكون لكل حادث حديث متى ما طردتم داعش من اراضيكم”.
وكان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، قد خاطب الجنود الاتراك المرابطين في معسكر بعشيقة، “انكم تواجهون الظلم بشموخ وشجاعة” ، وهنأهم “لأدائهم مهمتهم بنجاح وعلى أكمل وجه، قائلا “أتمنى لكم دوام نجاحكم في المعسكر، حيث أنزلتم ضربة موجعة لتنظيم داعش الإرهابي، وأسأل ألله أن يكون بعونكم”، وهذه اشارة اخرى الى استمرار الوجود العسكري التركي لأمد غير معلوم.
ولعل ما يشجع تركيا ويعزز مواقفها، هو ان هناك اطرافًا وقوى عراقية تطالب وتشجع على بقاء القوات التركية على الأراضي العراقية، انطلاقا من حسابات سياسية ذات بعد طائفي وقومي، وهذا ما يتضح جليًّا من معطيات زيارة يلدريم لاربيل ولقائه عدد من القادة والزعماء الاكراد، وكذلك التصريحات والمواقف التحذيرية والتحريضة لشخصيات وقوى من المكون السني ضد قوات الحشد الشعبي.
خلاصة القول، ان انقرة، التي تعرضت خلال الشهور القلائل الماضية لانتكاسات وهزات امنية وسياسية خطيرة، ناهيك عن ازماتها الاقتصادية، ارادت ان تغازل بغداد، لتحصل على متنفس لها، وتجني مكاسب من نوع ما، دون أن تقدم تنازلات، او تتراجع عن اخطاء.
ارادت ان تحافظ على حجم المبادلات التجارية، وفرص الاستثمار في السوق العراقية، وحركة السياحة، والمصالح الاخرى، دون ان تقترب من ملف “بعشيقة”، وكأن هذا الاخير ليس مربط الفرس!.