الورقة المشاركة في الحلقة النقدية / مهرجان المربد الشعري الثالث عشر / دورة الشاعر مهدي محمد علي.
الشعراء كثيرون ..لكن قلة ً منهم من صارت بحيازة آثاره الشعرية : ماهية الشعر ومن هذه القلة الشاعر مهدي محمد علي وهذه الماهية ثرة التحقق من خلال .. العنصر الذاتي ، المتجسد في نصوص مهدي ..أقول ذلك ، وأنا معتكف على نصوصه منذ سنوات ..وللشاعر مهدي دراجة هوائية إطاراها : المخيال والأسئلة ..كما هو الحال في قصيدة (بالأزميل )
(أتذكرك ِ يا أمي
وأتأملُ القصيدة
فأرسم سجادة ً للصلاة
وقارورة ً للدواء
أتذكرك ناحلة ً مهمومة ً يا أختي
وأتأمل ُ القصيدة
فأضُيف ُ صفصافة ً
وجدولا ً
وطحالب َ
أتذكرُ نافذتي هناك
فأفتح نافذة ً في القصيدة
وأمتدادا ً طفيفاً
وبيتاً للجيران
وزجاجا ملوناً
وصبية ً يلعبون
أتذكرك يانفسي
فأضيف أفقاً دامياً
يُؤطره الدخان
وجرّة ً مكسورة )…
نلاحظ أن فعل التذكر ، لايكررالزمن النفسي السابق ، بل يضيف إليه مؤثرتيّ القسوة ِ والزمن ِ .. وهكذا نحصل على نوع ٍ من القصائد التي يمكن ان أطلقُ عليها القصيدة َ الواعية َ بذاتِها..فالشاعر يكتب ويعي انه يكتب قصيدة ، فهو يدخل إلى نصه ثم يخرج منه ويتأمله من الخارج ويدخل ليضيف كلمات ٍ أو رسوماً..والشعر هنا يختلق لغة ً مِن اللغة ِ نفسِها وهكذا يأممُ منها ما يوائم روحه ُ ورؤياه ..وهنا خطورةُ اللِعب بنار اللغة التي أودت بحياة بعض الشعراء..(عمر أبن أبي ربيعة )..(يزيد ابن مفرغ ) فاللغة هنا تشتبك مع المتنافر والمتناحر والمتباعد والمتعارض ، وعبر هذه الأقطاب والتحكم فيها يبسط الشاعر ظله الأخضر على الضروري..ومن هنا ستكون اللغة من (أشد المقتنيات خطرا) لأنها الرحم التي تتخلق فيها إمكانية (تهديد الوجود من جهة الموجود )..وبتجسيد شعري جواهري (أنا حتفهم ألج البيوت…) أو بلغة محمد صالح بحر العلوم (أين حقي؟)..أو مظفر ..(أحدٌ أحد ٌ طلقة ٌ ماثلة ..)..والأسئلة ُ تديمُ يقظة سراج الشاعر وتصون زيتَه ُ من الدنس ، والشاعرُ الشاعرُ في كل ما يفعل بريء من الأفك واللغو ..فالشعر وبشهادة الشاعر هلدرلن (أكثر المشاغل براءة )..والشاعر شعريته ليست مشروطة بما يقول بل بما يتخيل في قوله ، أعني قدراتِهِ الجمالية في التوهيم ،وهذا الشرط لابدّ من توفره في حقول الإبداع كافة ..وهذا التوهيم البديع ، يتموضع خارج َالصحيح والخطأ ..وخارجَ أنظمة السلوك الجمعي المشروطة بالحقيقي والمقنع
والمتداول والمؤتلف ..وبإختصار فأن المتخيّل وبشهادة الناقدة كايت همبورجر : (هو تلك اللذة اللامبالية التي تحمل سمة الجمالي ../ 135).. وسيكون تعقيبي على شهادتها : المتخيل هو اللغة بوظيفتها الجمالية ..
(*)
تنماز قصائد الشاعر مهدي محمد علي ، بإنتاجها الغزير للأسئلة ، وقد خصصت ُمبحثا لها في مخطوطة كتابي عن مهدي محمد علي ..لكن قصيدة (صوت !) لاتبذر أسئلة في تربة القصيدة ، بل هي القصيدة بحد ذاتها ، وهناك نوعية الأسئلة فهي تختلف عن سواها ، عنوان القصيدة من كلمة واحدة نكرة : صوت ! وكأن علامة التعجب لها وظيفة مهاد بالنسبة للقارىء وستكون علامة التعجب بوظيفة إشارة مرورية للقارىء وهو يسلك فضاء القصيدة ،علامة التعجب غزيرة الدالة بتوقيت اسطر القصيدة..وتأويلات الصوت تتوالى بفتيت ذري .. وبمخيال شخصي : أرى صوت العنونة حبل غسيل ..وكل الأصوات عليه أراها طيورا متنوعة الطبائع ..أو أقترض رؤية الشاعر نفسه في قصيدة (هذا العالم / من ديوانه شمعة في قاع النهر )
(يبدو لي أحيانا ً
وأنا أتطلّع إلى السطوح ..
إلى الثياب النظيفة
وهي ترقص ُ تحت الشمس
يبدو لي أنها بعريها الفريد
بلا أكف
بلا ساق
وبلا خصور –
ترفع قاماتها
مثل رايات ٍ في كرنفال / 235)..أعود إلى قصيدة صوت ، أتأمل بنية الإفتقار أعني ثريا النص ، (صوت !) مفردة نكرة ، علمها المؤلف بعلامة تعجب (!) وهكذا منح َفطنة القارىء : هدباً من أهداب النص .وسينتقل فعل القراءة لدي ّ من أفقية العنونة ،إلى عمودية تنضيد القصيدة ..ربما بل بالطريقة هذه سألظم خيط قراءتي بدلالات خرزات القصيدة ، لأحوز في النهاية : ..قلادة المعنى ..و إذا شئت ُ مسرحة فعل القراءة سيكون الشاعر من خلال قصيدته خطيباً وسأكون أنا القارىء مترجما لكلام الخطيب ..وبشهادة (دانيكا سيليسكوفيتش ) فأن (المترجم لايعيد الكلمات التي يتلفظها الخطيب ، إطلاقا بل يعيد صياغة أفكاره ../ ص85).. وهذه الصياغة تشترط عليّ أن أعي جيدا ..(إن عملية الفهم …ترتبط بترجمة الدلالات اللغوية وفق المعلومة المتاحة فتقدم خزينا جديدا ناجما عن تجربة بحيث يمكننا القول أن في كل نتيجة لغوية …صلة باكتساب جديد غير لغوي ../ 190- المصدر السابق )
أعود إلى الصوت الذي يخرج من صوتيته ويتجسد في أشكالا شتى تثير القائل قبل المتلقي
:(صوت ٌ هذا ؟! )..
هكذا يتساءل الشاعر ويجيب على سؤاله جواباً شعريا رؤيويا ،ويأخذ الجواب صيغة متساءلة ، ربما ستكون للقصيدة وظيفتي ّ التأويل أو تفكيك شفرة العنونة تفكيكا ذريا من خلال فعل الترجمة للغة من داخل اللغة نفسها ..
( أم كأس ٌ تتلألأ
أم خمرٌ دون زجاج ؟!)
وهنا إحالة نصف معلنة لقول النواسي
(رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر..)
وهنا سيكون توقفي مثنويا :
*أتوقف عند (أم )… فوجودها يعني وجود (علاقة تناسخ بين أحتمالين كليهما موضع تخيير ، في حين ان استعملهما هنا قد خرج على هذه القاعدة ..) لكن الشاعر هنا تمرد على النحوي وخصّب قصيدته بقوة المخيل وحده وأفتتن فعل القراءة بإنزياحات الدلالة ..
*التوقف الثاني سيكون في كيفية تقبل هذه الصورة الشعرية التي تتجاوز (الإختلاق الإمكاني ) وتبلغ ذرورة (الإختلاق الإمتناعي ) حسب حازم القرطاجني في (منهاج البلغاء وسراج الأدباء /تحقيق محمد الحبيب أبن الخوجة – وزارة الثقافة – تونس – ط3- 2008) ..وشخصيا أرى الصورة الشعرية في قصيدة (صوت !) ينطبق عليها القول التالي لحازم القرطاجني ..(ويحسّن موقع التخييل من النفس ، أن يترامى بالكلام إلى أنحاء من التعجيب ، فيقوى بذلك تأثّر النفس لمقتضى الكلام . والتعجيب يكون باستبداع مايثيره الشاعر من لطائف الكلام التي يقل التهدي إلى مثلها فورودها مستندر مستطرف لذلك : كالتهدّي إلى مايقّل التهدي إليه ../ ص80 – حازم القرطاجني ..
ثم يعيد الشاعر إنتاج السؤال نفسه (صوت ٌ هذا ؟!) ثم تنهر الاحتمالات الغزيز ة المضفورة مايتجاور بين الأسئلة / الأجوبة ..وسنعمد على ترقيمها :
(1) أم ذكرى ————– زمن نفسي
(2) أم موتٌ نشتاق إليه ِ
(3) أم صورتنا بعد سنين ————– مصائر عراقيين وعراقيات
(4) أم سقف ٌ يهتز ——————- إنهيار قيم
(5) أم الشمس ابتسمت —————- محاولة في التفاؤل
(6) أم روح الله ِ تحومُ هنا ————— مظلة الرحمة
(7) أم أمي تبكي —————– حنين للبيت
(8) أم صفصاف البصرة ————- لحظة تأمل خضراء حميمية
(9) أم جدولنا ينساب ببطات أعرفها —————— يقظة في أحلام الماء
(10) أم روحي ———– ————————- منولوغ
(11) أم صوت جروحي —————————– ترجمة أنين الشاعر
ثم تنتقل القصيدة إلى الإحالة الثالثة
(صوت ٌ هذا
أم أهلي جاءوا —————————– إستقواء على الغربة
أم موتي أتقبّله ُ ؟! ————————— الإحساس بالأجل
وفي الإحالة الرابعة وهي الاخيرة ، ستكون الإجابة مثنوية ، مع الإعلان عن مصدر الصوت بنسق ثلاثي الغاية منه ربما ترك القارىء في منطق الإحتمالات ..
(صوتي هذا
أم صوت الله
أم الأم تنادي )
حسب قراءتنا هذه هواجس الشاعر التي صوتت فيه وهي مركوزة في صوت الشاعر الجواني الذي يعتمل بكل ضروب القلق المشروع والمشرّع على مالايتوقع وهو في وحشته يئن وحدته وغربته وحنينه للبصرة فذات الشاعرتتذرى بقوة قلقها الرؤيوي وسنرى في قصيدة (لماذا ) ذات مثنوية ، يتم تشغيلها بقوة الأسئلة أيضا ،فالشاعر يشتهي بتوقيت واحد ان يفعل فعلين ، والشاعر يستغرب ذلك فلهذا يرفع السؤال راية أحتجاج على نفسه
(لماذا
لماذا أشتهي _ أحيانا _
أن أحتسي ّ كأسين معاً
وأدخن َ سيجارتين معاً ؟!
لماذا أريد _ أحيانا _
أن أتذكر أمي مرتين في لحظة ٍ واحدة ؟!
لماذ أنا هنا
وحياتي هناك ؟!)
نلاحظ ان القصيدة مكتوبة في دمشق 15/ 2/ 1993، وقصيدة لماذا …في دمشق 29/ 9/ 1993
ونلاحظ أن الشاعر هو أفضل من يجيب على أسئلته هذه كما هو الحال في (فروسية )..
(اتّئد ..
ضَع وردة ،، اللابيت _ لامنفى
بعروة سترة ِ اللابيت _ لامنفى / 105)
ونرى الشاعريحاول مع البصرة استعادتها بتوقيتها هي وبمعرفته بذلك التوقيت كما هو الحال في قصيدة (شاي العصر)
(في مثل هذه الساعة
يشربون الشاي
حين تميل الشمس قليلا
ويغمر الظل، الجانب الشرقي من حديقة المنزل
ينتقلون بأكوابهم من غرفة إلى غرفة
ويكملون شربه على عشب الحديقة )…
(*)
تجربته ُ في قصيدة (صوت !) ليست الأولى ولا الأخيرة ..سوف يمازج مهدي محمد علي بين المصوّت والمرئي في قصيدته (خبز ُ الله )..فهي تشتغل بإستعادة ذلك الكائن الصوتي الذي لامثيل بين الأصوات وكنا في بصرة الستينات ننتظره في شهر رمضان من أذاعة الأهواز أعني صوت المقرىء (جواد ذبيحي )..وفي قصيدة مهدي تختلف مؤثرية الصوت عن
قصيدته (صوت !) فمصدر الصوت هنا واضح (منطلق ٌ من ذاك الراديو ذي العين الخضراء السُحرية ../97) وهنا اتساءل أليس الراديو محض مناسبة لتفجير خيال مهدي المتأهب دائما ؟ ، هذا الخيال ، يعده إلى جنة البستان خير بلاد الله للجائع والمفلس والعزب أعني البصرة بشهادة أبي حيان التوحيدي ..
(من صوت بِرِيسا
يأتيني صوت أذان ِ (ذبيحي ) !
مثل تلاوين جروحي
مثل الله المعبود ِ على الخبز ِ الطازج ِ
يكويني إذ أتلقاه ُ
من خباز ٍ إيراني موبوع القامة
(حيدر)
في الخمسينات
يتبعني في كل أزقة ِ بيتي
في أيام ٍ مشمسة ٍ
في البصرة)
في هذا المقطع من القصيدة تراسل صوتي ، يعيد الذاكرة الصوتية لدى مهدي ، إلى فترة الخمسينات في البصرة ..(..أعوام البهجة والانتخابات البرلمانية وأزدهار الطباعة والصحافة ، وحفلات حضيري أبي عزيز الإذاعية والسينما والسيرك ومعارض الرسم وسباق الدراجات الهوائية ../73 – محمد خضير / بصرياثا )
ثم تنتقل القصيدة إلى مفصل ثان ، يعلن عن مؤثرية الزمن والتي يتصدى لها الشاعر بلحظة زمنية آفلة ، لكنها مشرقة في زمنه النفسي الجواني المتدفق دوماَ
(لكن ّ ،،ذبيحي ،، الآن
صوت ُ ،، برِيسا ،،
في التسعينات ِ
فَصِحت ُ
الخبز َ .. الخبز َ
بِر ِيسا !
والله َ ..الله َ
ذبيحي )
والزمن البصري – نسبة للبصرة – ينتقل من العام إلى الخاص ويتموضع زمنا نفسيا خاصا بصوت مهدي المتداخل بأصوات البصرة في قصيدة (ساعة البصرة/ ص124- من ديوان شمعة في قاع النهر )..أعني ساعة سورين وبتوقيت سماع دقاتها يستعيد أوقاتا ووجوها وأمكنة ..
*الورقة منشورة في مجلة فنارات /العدد 15/ 2017 وكذلك منشورة في صحيفة طريق الشعب / 7شباط 2017