غادرنا غير مأسوف عليه منذ عشر سنوات لكن أضراره لن تغادرنا أبدا ، تلك التي اصابت كل شريحة بالمجتمع نتيجة لحروب عبثية وطموحات مجنونة أفسدت الحرث والنسل ، ولا يختلف اثنان على سوداوية مرحلة صدام لما تركته من اثر ببنية الفرد والاقتصاد والتأريخ والتي امتدت بالضرر لدول الجوار ، وكأنه قدر هذا المجتمع ان يواجه ظلم صدام المتنوع ليسلمه يدا بيد الى ظالمين جدد (تقمصوا دور الثوار) بأسماء ومنظمات وأسلوب مختلف تماما .
تميز صدام بسادية قل نظيرها وغطرسة ومكر سوء مكنته من الغدر بدم بارد لدرجة خيانة كل ميثاق شخصي او دولي فتمكن بزمن قياسي من صناعة أعداء كثر بالداخل والخارج ولم ينجو أقرباءه من غدره ، وأبتدع طرق غريبة لتصفية المناوئين فلم يبقي له غير التوابع والذيول ولا اعتقده وثق بأحدهم يوما ، نعم ان للكرسي ثمن ، وصدام كان يسدده على دفعات (لمن يضمن له البقاء) من حريات ودماء ابرياء الوطن ومستقبل أجياله ، حاول تحريف التاريخ ، وتاجر ببضاعة العرب الرائجة (فلسطين) فإشترى العقول والأقلام فصوروه بنبوخذنصر والمعتصم وعمر وعلي (شتان بين الثرى والثريا) ، تخليد الذات كان هاجسه الاول (هذا ديدن الطغاة) ، افاد من قفزة السبعينيات النفطية بالتسلح فتجاوز بعدوانه الحدود ، ولم ينال العراق من تطوير سوى ١٠٪ من الواردات ولانزال نراوح بذات المكان الذي تركنا فيه الدكتاتور لا بل انحدرنا للاسوء بفضل تجار الدين والمذهب .
استنسخ الطاغية تجربة الصين والدول الاشتراكية بعسكرة المجتمع وإخضاع المواطن لمركزية البعث بمنظمات واتحادات مهنية وطلابية وشبابية هي في حقيقتها الوجه الآخر لحزب السلطة ، وابتز الناس بلقمة العيش للدوران بفلك السلطة ، فأصبح معظم الناس اسرى من غير سجن وجنود لقائد جبان ، لم يكن يرى إلا نفسه فقد همش العلماء وقادة الجيش ورجال الدين ومخضرمي السياسة ، وتجاهل حقوق الأقليات القومية والدينية واصطنع فوارق بين فئات المجتمع بحسب الولاء لشخصه وأنعم بالامتيازات لمن يرضي غروره ، واحتكر الشاشة والصحف لنسمع ونرى كل همساته وأصبح كلامه المرتجل مواد دراسة وبحث أكاديمية تزلفا ، لقد اختزل كل شيء بشخصه ، ثم افتعلت له القشة التي قسمت ظهر البعير بغزو الكويت فكانت بداية النهاية . بإصراره على إنفاذ غروره الشخصي وتجاهل مصلحة ومستقبل الشعب ، فأصم سمعه وبصره عن اي حل قد يخفف الضرر عن الشعب الذي عانى منه الامرين .
وتكالب المتربصين من دول الجوار والدول الكبرى لاقتناص ماخلفه الطاغية بواسطة أدوات صممت لهذا الغرض (منظمات إسلامية وقومية وممثلي اقليات وهياكل مجتمع مدني) واستبعد الثوار والوطنيين الحقيقيين لعدم اهليتهم لهكذا دور لان القادم بالعراق هو تغيير شكلي فقط اي انه ليس ثورة على النظام بدليل مانحن فيه اليوم فكان ( تغيير طاغية بطغاة او تبديل لص قديم بلصوص جدد )، تم تجميعهم بمؤتمري لندن وصلاح الدين بإشراف (أمريكي/بريطاني) . يجمع كل وطني على ان التخلص من نظام صدام هدف سامي لكن الغريب المستجد ان يلعب قادة الاستعمار وتدمير الشعوب بالعالم دور المحرر ، ان دلالات الأهداف الخفية والمعلنة للهيمنة على العراق معروفة نبين بعضها للتذكير( ضمان النفط بجولات التراخيص ، ضمان أمن اسرائيل بتفكيك القدرة العسكرية الى حد أضعاف القدرة الدفاعية ، أضعاف القدرة العلمية باغتيال العلماء والأطباء وتهجيرهم ، ايقاذ الفتنة المذهبية والقومية ، أضعاف الاقتصاد بتدمير الصناعة والزراعة واستنزاف الاحتياطي النقدي ، اغراق البلد بمديونية يعجز عن سدادها ، تجهيل المجتمع بإعاقة التعليم واشاعة مفهوم ان لاجدوى من الشهادة ، تقليص ايام العمل بكثرة العطل ، تسهيل دخول المخدرات لهدر الطاقات ، إيهام المجتمع بعادات على انها عبادات فتستهلك الوقت والجهد والاموال ، تشجيع الأقليات على الانفصال ، إشاعة الفساد المالي والاداري فأصبح من واقع المجتمع ، إهمال حقوق المتقاعدين والعجزة واهمال الخريجين وتكريس البطالة المقنعة ، تأسيس ٤٠٠٠ منظمة مجتمع مدني بتمويل خارجي !! ، وغيرها الكثير) ، وأخيرا قدموا ثلث العراق لقمة سهلة للارهاب فخسرنا آلاف الشباب في سبايكر وتهجير الملايين داخليا وخارجيا اضافة لاستيلاء داعش على معدات عسكرية ومدنية لا حصر لها اضافة لتهريب النفط والآثار .
اما أوجه التشابه بين ما اقترفه صدام بحق الشعب وبين ما تقوم به احزاب الاسلام السياسي للعراق عموما وللاسلام الذي تسترت به خصوصا ، هو كسب الانصار بالترغيب المادي والمناصب (ومثال ذلك ان احدى التنظيمات ارتفع عدد مؤيديها (من ١٥ الى ٣٠٠ الف خلال المدة ٢٠٠٣ الى ٢٠١٤) ، ويشترط تزكية او الانتماء لتلك الأحزاب حين طلب الانتساب للقوى الأمنية او العمل الدبلوماسي والمواقع الإدارية المتقدمة ، بالضبط كما فعلها صدام بداية السبعينيات ، ويشتركون مع صدام بتبديد المال العام لكن بعنوان الخدمة الجهادية والتي تهدر عشرات ملايين الدولارات شهريا كرواتب تقاعدية اضافة لقطع أراضي ومنح وقروض للبناء ، ترى اي فقه إسلامي يبيح هذا النهب المشرع بقوانين فيعتبر للجهاد (إن وجد) ثمن مادي ، ومن تاريخ الحركات الثورية لم تكن التضحيات للوطن لها ثمن ، الثوار المضحين لأجل اوطانهم تخلدهم الشعوب ويكونون أسوة حسنة لأجيال قادمة ، من المؤكد ان عدد معين من كوادر تلك المنظمات جديرة بتعويض تضحياتها لكن الغالبية العظمى الباقية حققوا مكاسب بالباطل ، مثل تلك الهبات التي أغدقها صدام لأعوانه بالباطل ايضا وكان الجميع ينقدها بصمت .
نعم اهدر صدام الكثير وأضاع فرص تقدم حقيقي للعراق ، لكن منافقي الاسلام السياسي من الطائفتين بالتضامن مع من استظل بالاحتلال (كالكرد وغيرهم) ، سيدينهم التاريخ كونهم أجهزوا على ماتبقى بالعراق من حيث توقف صدام ، كان طاغية وظالم ولقي مصيره المستحق لكنكم لاتزالون اوطئ منه ، وجديرين بنفس المصير .