ما كاد الجواهري ليريح ركابه في براغ، مغترباً عن بلاده من جديد، عام 1980 بعيداً عن دجلة الخير، ومبتعداً عنها بسبب الأوضاع الارهابية التي سادت العراق آنذاك، حتى تكررت اليه دعوات رسمية عديدة لاستضافته، رمزاً ومبدعا رائداً ، ومن بينها دعوة رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية علي ناصر محمد، فتقبلها بسرور، ليلبيها عام 1981، وليُحتفى به بصورة بالغة، قلّ نظيرها هناك، كما ينقل شهود عيان…
… ومن ضمن برنامج الزيارة يُقام على شرف الشاعر الخالد احتفال جماهيري حاشد في عدن، فيلقي فيه، إلى جانب مختارات من قصائده القديمة (وكل قديمه جديد بحسب تعبيره)… نونية عصماء نظمها بالمناسبة، ولم ينس أن يوثق في مطلعها ، انطلاق رحلته الى اليمن ، من براغ، موطن الثلج كما أسماها:
من موطن الثلج زحافا الى عدن تسري بي الريح في مهر بلا رسن ِ
كاسي على صهوة منه يصفقها ، ما قيّض الله لي من خلقه الحسن
من موطن الثلج من خضر العيون به ، لموطن السحر ، من سمراء ذي يزن
من كل ملتفة الكشحين ناعمة، ميادة مثل غصن البانة اللدن
يا للتصابي اما ينفك يجذبني ، على الثمانين جذب النوق بالعطن
قالوا اما تنتشي إلا على خطر ٍ فقلت ذلك من لهوى ومن ددني
سبحان من ألف الضدين في خلدي ، فرط الشجاعة، في فرط من الجبن
لا اتقي خزرات الذئب ترصدني، واتقي نظرات الاوعج الشدنِ
ثم تستمر القصيدة ذات الواحد والأربعين بيتاً، ليشبك فيها الجواهري – كعادته – محاور متعددة بين العام والخاص والايحاءات والوصف والاستعارة، وغيرها كثير، فراحت أبياتها تتهادى على ايقاعات محسوبة باتقان متفرد:
خيت بي الريح في ايماض بارقة … تلغي مسافة بين العين والاذنِ
لم ادرها زمناً تطوى مراحله ، ام انها عثرات العمر بالزمن
والله ما بعدت دارٌ ، وان بعدت ، ما اقرب الشوط من اهلي، ومن سكني
ثم يردُ الشاعر في ابيات تالية، التحية بمثلها، وأكثر، للمحتفين به، والحاضرين الذين كانوا كفاء تكريم شاعرهم الأخلد:
ويا شباباً احلتني مفاخرهم ، في اي محتضن، من أي محتضن
لا يبلغ الشكر ما تشدون من كرمٍ، ولا يوفي بياني سابغ المنن ِ
اتيتكم ومتاعي فيض عاطفة ، بها يثار جنان الافوه اللسن
القي اليكم بما انتم احق به ، مما ينفس عن شجو ٍ وعن حزن ِ
وناقل التمر عن جهل الى هجر كناقل الشعر موشياً إلى اليمن
… وفي هذه المرة أيضاً، لم يفوّت الجواهري “مقامته” اليمنية الجديدة فراح يتباهى، بشعره وعطائه، وبرؤى ً اختطها مسارات ثابتة في حياته الرحيبة بالتمرد والشموخ والمواقف … فقال:
ويا أحبايّ صفحاً عن مكابرة من ملهمٍ بغرور النفس مرتهن
تغفو على الخطر الملتف خاطرتي كأنها نشوة العينين بالوسن
ويستبد بنفسي وهي حالمة، من كبرياء القوافي ، زهو مفتتن
ما ارخص الموت عندي اذ يندُ فمي ، بما تحوك بنات الشعر من كفني
وما ارق الليالي وهي تسلمني … يوم النضال، لظهر المركب الخشن
حسبتني وعقاب الجو يصعد بي … الى السموات ِ محمولاً إلى وطني
أخيراً لعلّ من المناسب ان نسجل هنا، ولمزيد من التأرخة والتوثيق ان الرئيس علي ناصر محمد حرص على ادامة علاقات وطيدة مع الشاعر الرمز، وعلى مدى أكثر من ربع قرن، ومن بينها على ما تحفظ الذاكرة، زيارته للجواهري في شقته المتواضعة ببراغ عام 1983… لتليها لقاءات وزيارات أخرى عديدة في دمشق الشام خلال الثمانينات والتسعينات الماضية، حين كان الرجلان يستقران هناك، ضيفين سياسيين مكرمين، ولسنوات عديدة…