18 ديسمبر، 2024 9:48 م

المقدس والمدنس – تقديس المكان

المقدس والمدنس – تقديس المكان

إنّ المكان غير متجانس، بالنسبة للإنسان المتدين، إنّه يمثل إنقطاعات وإنكسارات : يوجد أجزاء من المكان مختلفة نوعيا عن بعضها.
” لا تقترب من هنا، قال الرب إلى موسى، أخلع نعليك من رجليك، لأنّ المكان ألذي توجد فيه هو أرض مقدسة ” ( خروج 5:3). فيوجد إذن حيّز مقدس، وبالتالي “قوي” ذي مدلول، ويوجد أمكنة اخرى غير مكرسة وبالتالي بدون بنية وبدون قوام، وبعبارة اخرى : عديمة الشكل وأكثر من هذا أيضا : إنّ إنعدام التجانس المكاني هذا بالنسبة للإنسان المتدين يُترجَم بتجربة تعارض بين المكان المقدس، الذي هو حقيقي وحده، والموجود حقيقة، وكل الباقي من الامكنة هي إمتداد بلا شكل محدد ويحيط بالمكان المقدس.
المعبد والكنيست والكنيسة والجامع هي اماكن تشكل فتحة صوب الأعلى وتضمن التواصل مع عالم الآلهة، فعندما رأى يعقوب في الحلم في فزان السلم الذي يلامس السماء وعليه كانت الملائكة تصعد وتهبط سمع الرب وهو في القمة يقول :
” أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق .. فأستيقظ يعقوب من نومه وقال إن الرب لفي هذا الموضع وأنا لم أعلم فخاف وقال ما أهون هذا الوضع ما هذا إلا بيت الله هذا باب السماء ثم بكر يعقوب في الغداة وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه نصبا وصب على رأسه دهنا. وسمى ذلك الموضع بيت إيل وكان إسم المدينة أولا لوز ” ( تكوين 28-12-19).
إن الرمزية المحتواة في العبارة ” باب السماء ” غنية ومعقدة : فالتجلي في حلم يعقوب كرس مكانا مفتوحا صوب الأعلى، أي متصلا مع السماء. وهنالك أمثلة أخرى، فالكعبة المقدسة بالنسبة للمسلمين هو أول بيت بني للإتصال بالله، وبعبارة أخرى لعبادة ألله.
حسب التراث الإسلامي  أُسرِي بالنبي محمد من مكة إلى القدس التي كانت منطلق العروج إلى السماء من المكان الذي توجد فيه اليوم قبة الصخرة بالقرب من المسجد الأقصى والتي تُعتبر من الأماكن المقدسة في الإسلام. ، فالمعراج هو صعود الإنسان من عالم المادة إلى عالم السماء والروح.
يندر أن يتساءل أحد لماذا وصف ذلك الشيء بالحلال والمقدس وذلك الشيء  بالحرام والمدنس ؟
ولماذا أُعتبِر هذا المكان وهذا الجبل وذلك الحجر مقدسا في حين دُمِغ غيره أو دُمِغت ظاهرة طبيعية بكونها مجردة من القداسة؟
يدلنا التاريخ القديم ان العرب كغيرهم من الشعوب بل ربما اكثر من غيرهم قد ادخلوا صفة القداسة على كثير من الأشياء ونزعوها عن الكثير .. ويذكر في هذا الصدد ان عمر بن الخطاب قطع الشجرة التي حدثت تحتها بيعة الرضوان في غزوة الحديبية ، مخافة ان يعبدها العرب وأنّه لم يتقبل عادة تقبيل الحجر الأسود نفسيا وقال قولته المشهورة : ” إنِّي لأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ , لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ , وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ “.
وتسرد كتب التاريخ ايضا كيف أقام العرب مقامات ومزارات لإحتفالاتهم وأضفوا عليها صفات التقديس وأحاطوها بالكثير من الأساطير والخرافات،كما أضفى العرب على أماكنهم المقدسة صفة وجودها في مركز الدنيا، وأسبغوا على بعض الحجارة صفة سماوية أو أدعوا بإنّها جاءت من عالم آخر كمجيء الحجر الأسود من الجنة.
الفكر العربي كغيره من فكر شعوب أخرى أضفى صفة القداسة على التكون القدسي للعالم والكون والإنسان وركن على محاور قدسية متعددة تتجاور مع أشياء غيرها منزوعة عنها صفة القداسة، وقد خاض الفقه الإسلامي كثيرا في هذا الميدان وخاصة فيما بحثه في دائرتي الحلال والحرام ألذي أصبح الإنسان محاطا ضمن دائرتيهما تبعا لموروثات تتحكم في وجوده من المهد إلى اللحد.
ما زلنا في كل يوم نسمع ونرى على ساحة الثقافة والإعلام والتربية تجاور عالمين مفتوحين أمام الإنسان المسلم بدءاً من البيت والمدرسة ونطاق العمل وحتى الموت، وهذان العالمان هما عالم التاريخ واللا تاريخ. العالم الدنيوي والمقدس، وعالم الحلال والحرام، ونرى الإنسان مقسما بين هذه الثنائية المتحكمة وقلما يستطيع الخيار فيها بشكل قاطع نظرا للتحكم القاهر في سلوكه وفكره بحيث أستمرأها وأصبح يعيش إزدواجية رهيبة تنعكس في سلوكه وفي بنيته الثقافية وتكوينه الإجتماعي والسياسي، وقد يصل الأمر إلى حالة محزنة ترى الإنسان فيه وكأنه طبقات يمارس في بعضها الحلال وبعضها الحرام ويمارس شعائر القداسة دون أن تمنعه عن إقتراف الدناسة.
ومما لاريب فيه أنّ ما يُشاهد من هذه الأحوال البائسة وما يُلاحظ من خلل وفساد في كيان هذا المجتمع وأفراده على مستويات كثيرة، ينهل كله من معين الأنماط الثقافية والتقديسات المكانية والزمانية وعكسها التي كثيرا ما ساهمت في تفاقم الأدواء الإجتماعية التي لم يجرؤ أحد على إستعمال المبضع الحاد في إستئصال عللها.
من المقامات المقدسة التي أقامها العرب قبل الإسلام الكعبة التي أعتبرها العرب أول مكان خُصِص لعبادة الله.
أسطورة آدم وبناء الكعبة :
في السيرة النبوية لأبن إسحاق نجد عدة أحاديث أسطورية حول بناء الكعبة منها :
” ثنا أحمد قال : حدثني أبي قال : ثنا جرير بن عبدالحميد عن منصور عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو قال : خُلق البيت قبل الأرض بألفي عام، ثم دحيت الأرض منه “.
” ثنا يونس عن سعيد بن ميسرة البكري قال : حدثني أنس بن مالك أن رسول الله (ص) قال : كان موضع البيت في زمن آدم شبرا أو أكثر، فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم، ثم حج آدم فأستقبلته الملائكة، فقالوا، يا آدم من أين جئت؟ قال حججت البيت، قالوا، قد حجته الملائكة قبلك “.
” ثنا أحمد: ثنا يونس عن ثابت بن دينار عن عطاء قال : أُهبِطَ آدم بالهند، فقال : يا رب ما لي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة؟ فقال له : بخطيئتك يا آدم، فأنطلقْ فابنِ لي بيتا فتطوف به كما رأيتهم يتطوفون، فأنطلقَ حتى أتى مكة فبنى البيت، فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهارا وعمارة، وما بين خطاه مفاوز، فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة “.
نستنتج من هذه الاساطير ما يلي :
أولا : أنّ الله خلق البيت قبل الأرض بألفي عام ولا نعلم مكان البيت قبل خلق الأرض، وبما أنّ خلق الأرض حسب القرآن كان قبل خلق السموات، نستنتج أنّه لم يوجد مكان سابق للبيت لأنّ السماء أثناء خلق الأرض كانت دخانا:
 ” قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) ” سورة فصلت .
ثانيا : نستنج من الحديث الثاني أنّ قطعة التي خصصها الله في زمن آدم لبناء البيت كانت مساحتها شبرا واحدا أو أكثر ولم يكن هناك بناء على هذه القطعة ، فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم، ثم حج آدم فأستقبلته الملائكة.
ثالثا : بنى آدم البيت، فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهارا وعمارة، وما بين خطاه مفاوز، أي لم يكن هناك حاجة لضرب جبريل بجناحه لإستخراج ماء زمزم ليروي إسماعيل عطشه لوجود الأنهار في مكة بعد أن ترك النبي إبراهيم زوجته هاجر وأبنه إسماعيل في وادي غير ذي زرع حسب ألأسطورة الإسلامية :
“رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”….. الآية (37) من سورة إبراهيم.
إضافة لتقديس الكعبة التي بناها ألنبي إبراهيم وأبنه إسماعيل حسب الأسطورة الإسلامية، يقدس المسلمون الحجر الأسود الموضوع في أحد أركان الكعبة ” وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” ….. الآية (127) من سورة البقرة.
يذكر أبن إسحاق في السيرة النبوية حول اسطورة الحجر الاسود ما يلي :
” ثنا أحمد : ثنا يونس عن الأسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال : خرج آدم من الجنة معه حجر في يده وورق في الكف الأخرى، فبث الورق في الهند فمنه ما ترون من الطيب، وأما الحجر فكان ياقوتة بيضاء يُستضاء بها، فلما بنى إبراهيم البيت فبلغ موضع الحجر قال لإسماعيل:
أئتني بحجر من الجبل، فقال : غير هذا، فرده مرارا لا يرضى بما يأتيه، فذهب مرة، وجاءه جبريل بالحجر من الهند الذي أخرج به آدم من الجنة فوضعه، فلما جاءه إسماعيل قال : من جاء بهذا؟ قال : من هو أنشط منك “.
” ثنا أحمد : ثنا يونس عن سعيد بن ميسرة عن أنس بن مالك أنّ رسول الله (ص) قال : كان الحجر من ياقوت الجنة فمسحه المشركون فأسود من مسحهم إياه “.
” وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر : والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق “.
رواه الترمذي وقال حديث حسن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما قال الشيخ الألباني صحيح (صحيح الترغيب والترهيب وكذا أيضا في صحيح الجامع ).
إضافة للكعبة هنالك أضرحة عديدة  يسبغ عليها المسلمون صفة القدسية كضريح النبي محمد وضريح علي بن أبي طالب وأضرحة أولاده وأحفاده وكذلك أضرحة الشيوخ والأولياء وبعض صحابة النبي محمد.
لا يقتصر تقديس الأماكن والأضرحة على المسلمين فللمسيحيين واليهود والبوذيين والهندوس أماكنهم المقدسة.
ختاما نقول أنّ مفهوما المقدس والمدنس هما من إختراع الإنسان عبر ثقافاته وتطوره الحضاري، وعندما نتبين معالم الحدود لكثير من الأمور التي تفرض وجودها تحت عنوان مقدس نجد أنّ أصلها تنبع من ميثولوجيا (أساطير) أبتكرها الإنسان عبر تاريخه الطويل، وجعلها قيدا على فكره وحريته كما جعلها أداة قمع وقهر وإستغلال.
نلتقيكم في مدارات تنويرية أخرى.
 المصادر :
–         المقدس والمدنس ……. ميرسيا إلياد.
–         السيرة النبوية ……….. لأبن إسحاق.