مصطلحان مترادفان كثيرا قد يسيئ البعض فهمهما سهوا او عمدا ولكن حان الوقت للفصل بينهما وتبيان من منهما أعم وأهم وأشمل وأفيد من الاخر. فقد يبدو للبعض ان مفهوم الديمقراطية بحد ذاته يحمل بين طياته ابعادا ليبرالية, وهذا صحيح نسبيا ولكنه ليس دقيقا لان العكس هو الصحيح. فالليبرالية هي بلاشك الاسمى والاوسع والهدف المرجو, وواحدة من ادوات تحقيقها هي الديمقراطية. ويمكن نظريا افتراض الوصول لعالم مثالي بالليبرالية وحدها, اما التطبيق الحرفي للديمقراطية بدون ليبرالية فهو فاشل باتفاق جميع الاراء والتجارب عالميا. وهناك احداث جرت بالفترة الاخيرة عالميا ومحليا (العراق) تستدعي اعادة التذكير والتأكيد والتنبيه للفوارق بين المصطلحين والمراد منهما. ومن ذلك تصويت البريطانيين على استفتاء الخروج من الاتحاد الاوروبي Brexit وانتخاب ترامب كرئيس للولايات المتحدة الامريكية وتبني البرلمان العراقي لقوانين خلافية وبالاغلبية البسيطة كقانوني منع الخمور (ضمن قانون موارد البلديات) وقانون هيئة الحشد الشعبي وغيرهما.
الليبرالية هي مفهوم اخلاقي ودستوري وعالمي ارفع بكثير من مفهوم الديمقراطية. ودساتير العالم المتحضر جميعا ومنها دستورنا العراقي وكل باقي الجمهوريات العربية بمنطقتنا اشارت (وبمقدماتها؛ لان التسلسل مهم في الدساتير) الى مبادئ المواطنة والمساواة والحريات الشخصية والاعتقاد والتعبير عن الرأي باعتبارها مسلمات وثوابت لايجوز المساس بها بتاتا. وهي جميعا حقوق ليبرالية. بل وفوق ذلك هناك مواثيق حقوق الانسان الدولية التي تضمن وتصون تلك الحقوق الليبرالية ولها منزلة اعلى من الدساتير نفسها وتعرض منتهكيها للادانة والملاحقة القانونية الدولية عدى المحلية. اما الحقوق الديمقراطية واليات تحقيقها من خلال برلمانات منتخبة او بغيرها والتصويت على القوانين والصلاحيات فهذه امور جزئية عالجتها الدساتير بفقرات لاحقة وتدخل ضمن سيادة كل دولة واستقلالها واختيارها النسبي, ولكنها بالتاكيد يجب ان لاتخل بما سبقها من التزامات اسمى, في ظل نظامنا العالمي المعاصر الذي يطلق عليه حرفيا “السيادة المنقوصة” للدول بعد زوال وانتهاء عهد السيادة الكاملة. فاي نظام برلماني منتخب ديمقراطيا يحق له واصدار القوانين التي يراها مناسبة وتشديد العقوبات او تسهيلها او حل نفسه او تمديد فترة عمله وغير ذلك مما يدخل ضمن صلاحياته السيادية بالاسم فقط ولكنها محدودة بالفعل, فكل ما يتجاوز على الحقوق الليبرالية غير مباح له ذلك الان. فنحن اليوم في عالم مختلف ويجب علينا جميعا ان ندرك ذلك. وأذ كان سابقا يحق لي ان ارمي زبالتي بالشارع امام بيتي او ان اضرب زوجتي واطفالي داخل بيتي باعتباري المالك اوولي الامر. الان صار للجيران والاخرين حق بل وواجب منعي من ذلك ان فعلت! فهل يحق مثلا لاي برلمان منتخب بالعالم ان يجيز استعباد البشر وتقنين الجواري وضرب المساجين وأخصاء المرضى او حرمان النساء من التصويت؟ قد يحدث هذا بدول لابرلمانات لها ولا ليبرالية ولا انسان محترم اصلا لانسانيته!
حتى نعرف الفرق بين الليبرالية والديمقراطية لنأخذ المثال المقرب التالي: هناك مجتمع يتكون من 200 شخص يرفضون بناء مساجد بمدينتهم و100 شخص بنفس المجتمع يريدون بناء مسجد. فهل من الحق والعدالة والاخلاق والمدنية ومن دراستنا لتاريخ الامم والشعوب ونجاحها او سقوطها ان نمنع بناء مسجد بهذا المجتمع بدعوى الديمقراطية وقرار الاغلبية ام نسمح لهم بالبناء بدعوى الليبرالية واحترام حقوق الاخرين حتى لو كانو اقلية خسرت بالتصويت؟ بالتاكيد وبدون ذرة شك سيكون هذا المجتمع انجح لو سمح بالبناء مع انه سيزعل الاغلبية, فاساس بناء الاوطان والمجتمعات وتحضرها بعصرنا هذا هو عدم استبعاد الاخر مهما كان عدده. والخاسر هنا هو ليس العدد ولا الديمقراطية وانما الفكر الاقصائي الذي لايناسب زماننا. اما ان تعارض المسجد وتلعنه وتشتمه او ان تقدسه وتمدحه وتبين مزاياه فهذا موضوع اخر ويدخل ضمن حرية الرأي المباحة قبل وبعد التصويت والقرار, اذ لا خطوط حمراء على الفكر وانما على التطبيق. ولو كان هناك 100 شخص اخر بهذا المجتمع الافتراضي يريدون بناء كنيسة او بار او ملهى او مكتبة او مرصد فلكي او قاعة اعراس فلهم نفس حق جماعة المسجد؛ لايسعني ولايمكنني ان امنعهم من تحقيق مايريدونه بحجة العدد والاغلبية, فلا وصاية فكرية واقصائية لاحد على احد, بل حتى لو كان عددهم 1 فقط وليس 100. ولو كانت الديمقراطية و راي الاغلبية هي الحكم النهائي في يوم من الايام بتاريخنا لما وجدنا بشرا متنوعين في يومنا هذا. كلنا نختلف حول هذه او تلك من الامور ومنذ الازل, وسر ديمومتنا وجمال حياتنا هو في تعايشنا وعدم تجبرنا على الاخر مع اختلافنا. ان تكون لك ولافكارك اغلبية عددية او برلمانية لعدد بسيط من السنوات وتريد ان تستبد بها على غيرك فلا تنسى انك نفذت من أغلبيات مخالفة لك ولكنها تحملتك لقرون, وانك ستعود يوما ما اقلية امام اغلبية عددية فكرية قد تنتقم منك بنفس اسلوبك!
الديمقراطية بحد ذاتها لها عيوبها ومحاسنها المتأصلة. فمن ميزاتها اعتمادها مبدأ المساواة بين الناخبين فلكل فرد صوته الذي يفوضه بارادته لاخر فاخر حتى يتم تنفيذ العقد الاجتماعي الجمعي, وانها تمتص الافكار الراديكالية والدينية والتطلعات الخاصة والمتطرفة وتذيبها بوسيط مرضٍ اخلاقيا ومنفعيا وخاضعا للنقد والتقييم دوريا عبر تكرار عملية الانتخاب. هذا بافتراض نزاهة عملية الاقتراع ويسرها وحيادية قوانينها. اما سلبياتها بدون ليبرالية فهي كثيرة؛ وكلنا قرأ اقتباسات هنا وهناك استهلها افلاطون عن تهافت الديمقراطية كنظام للحكم يعتمد الاغلبية العددية كمعيار للتفاضل الاخلاقي والاجتماعي والسياسي بوجود نخبة واعية مفكرة قليلة العدد بمجتمعات غالبيتها جاهلة وغير متعلمة وتنحاز للتوافه على حساب الفضائل العليا. وقد اسهب اعداء الديمقراطية في نقدها والحط من قيمتها ليس حبا او كرها بالفضائل والحلول التي تقدمها الديمقراطية ولكن تحيزا وتطرفا في دعم بدائل اخرى وانظمة منافسة لاتصل عشر معشار ماتقدمه الديمقراطية من خير.ولحسن الحظ فشلت وانزاحت كل الانظمة غير الديمقراطية او بطريقها لزوال. ولكن ترك الحبل عند جرار الديمقراطية لوحدها يقود لتهميش الاقليات الحتمي وحكم الرعاع وضياع المصالح والحقوق بعيدة المدى مقابل منافع انية زائلة, وامكانية استغلال الديمقراطية من قبل اعداء الليبرالية لها وخاصة الاسلاميين للوصول الى السلطة لقمع الاخرين, كما حدث في الجزائر ومصر ويحدث الان في تركيا والعراق.
وحتى في مجتمعات متحضرة واوروبية مثل بريطانيا لو ترك القرار حول تسفير الاجانب ووقف الهجرة واعادة تطبيق عقوبة الاعدام وحظر المثليين الى الاستفتاء الشعبي لتراجع البلد الى مستوى دول العالم الثالث وضاعت ليبراليته. ولو ترك الامر لاستفتاء الشعب السعودي مثلا لن تحصل المراة عندهم يوما على اي من حقوقها المسلوبة حتى الان. فالديمقراطية هي اذن الية وطريق وليست الهدف المنشود لذاتها وانما الليبرالية هي المرجوة. والديمقراطيات المعروفة التي نجحت في تقدم شعوبها كانت ديمقراطيات ليبرالية لاتستثني الباقين ولا تبخس احدا حقه حتى ولو كان من الاقليات ومن الخاسرين بالتصويت والاقتراع او ممن لم يقترع اصلا وقاطع الانتخابات, وحتى لو كان من المهمشين والضعفاء والاستثنائيين. اي انها الديمقراطيات الليبرالية المتفتحة المستوعبة للاخر والمتقبلة له وليس ديمقراطيات الاقصاء والاستقواء والظلم وفرض الامر الواقع ورأي الاغلبية. فكل الديمقراطيات المتقدمة في العالم الغت العبودية وحرمتها وساوت المرأة بالرجل بكل شيء تقريبا واعتبرت المواطنة اعلى من كل تقييم أخر واعطت المثليين والفقراء والمعوقيين مثلا حقوقا تنافس حقوق كل باقي السكان ان لم تزد منطلقة من مبدأ التقوية empowerment اي التعويض الايجابي عن النقص والانحياز المجتمعي ضد الاقليات, وكلها كانت قرارات غير ديمقراطية وفرضت على اغلبيات شعبية عددية معارضة. وهذا هو نوع الديمقراطيات التي تكللت بالانتصار بالحربين العالميتين الاخيرتين وفي بناء انجح الاقتصاديات والمجتمعات المتحضرة المعاصرة, او تحول الخاسرون اليها فعوضوا خسارتهم.
وهناك نوع اخر من الديمقراطيات الادعائية التي لاعلاقة لها بالديمقراطية التي تخيلها بالاصل الاغريق وطبقها الرومان بزمانهم بشكل نخبوي واستعدنا تطبيقها منذ قرون بعد تغول الملوك والاديان والشموليات لقرون اطول وبعد فشل كل الانظمة البديلة. وهذه الديمقراطية لا تعتمد صناديق الاقتراع ولا التصويت الفعلي اصلا ولكن يتم رفع الشعار كمقدس من اجل الشعار نفسه لا اكثر, وهي بالتاكيد غير ليبرالية وفاشلة. فكل دول اوروبا الشرقية سابقا او حلف وارسو ومنها المانيا الشرقية والبعث الصدامي ومصر عبدالناصر, وكل الاحزاب الشيوعية واليسارية والشوفينية حول العالم من موسكو السوفيت الى هافانا الى بيونغ يانغ الشمالية (عاصمة كوريا الشعبية الديمقراطية) ذابحة الديمقراطية من الوريد الى الوريد كلها تدعي انها ديمقراطية! ولكنه ادعاء اجوف لاغير. فلا انتخابات تجرى, ولا موثوقية باي نتائج وزعامات ان تم الاقتراع, ولا اي اختيار شعبي حر يمكن تلمسه باي من مخرجات هذه الدعوات, ولاحقوق فيها للاكثريات ناهيك عن الاقليات والافراد. الجديد بالموضوع هو ان انظمة واحزاب حكم راديكالية اسلامية لاتقل شمولية عن اليسار والقوميين صارت تركب موجة الديمقراطية وتحتج برأي الاغلبية مع انها ابعد ماتكون عن تقبل الغير المختلف لو فاز عليها ديمقراطيا, ومنها ايران الملالي وعراق الاسلاميين وتركيا اردوغان وقبلهم جزائر الانقاذ ومصر الاخوان. كلهم يحلفون ويتبارون ويهددون باسم الديمقراطية وهم ابعد الناس عن تقبل تموضعاتها. وقبلهم كان نازييو هتلر وبروليتاريا ستالين يرفعون نفس الشعار الذي لايمكن ان يحسب على الديمقراطية ولا على الليبرالية!
يمكن اعتبار ايران واحدة من اهم دول المنطقة التي تحكمها الديمقراطية لوحدها بدون ليبرالية على العكس من الامارات العربية الليبرالية التي تفتقر لاية ديمقراطية, ومن السهولة تقدير درجة رضى الشعب عن حكوماته باي منهما. بينما السعودية تخلو من الاثنين. اما في تركيا والعراق فنحن ديمقراطيات جديدة نسبيا ويحاول الاسلاميون تقويضها من خلال انتهاك حقوق الافراد والاقليات بدعوى الاغلبيات, ولكن تواجههم حركة علمانية مدنية قوية تستند الى دستوريهما الليبراليين. اما الاردن ولبنان الذين عرفا بدرجة من الليبرالية لعقود فان تقدم او تراجع الديمقراطية فيهما لم يزد من ليبراليتهما ان لم يكن لها مفعول سلبي عليهما. وهذا يذكر بتجربة الهند والباكستان اللذين كانا ولازالا من اكبر الديمقراطيات الحقيقية بالعالم ولكن مع ليبرالية اكثر ومتنامية بالاولى وليبرالية محدودة ومضيقة بالثانية, فتفوقت الهند بالنتيجة وبجدارة على جارتها المسلمة بكل المعايير مع اضعاف عدد السكان.
بلبرلة الديمقراطية فقط يمكن احترام التصويت وصناديق الاقتراع والتنافس الشريف وتلمس رأي الاغلبية حول اي موضوع او مشكل لغرض الوصول الى قرار حازم ونهائي حوله,وعلى الجميع ان يتقبله برحابة صدر ويتبناه. فهذا هو الضمان الوحيد لعدم الاقصاء والرضى والنجاح الحتمي. والديمقراطية الليبرالية قادرة على تصحيح اخطائها وعثراتها. فبالتاكيد هناك كوابح ليبرالية ستوقف نتائج “البركست” الذي استفتي عليه البريطانيون وفاز بأغلبية ضئيلة غير مدركة لحجم تأثيراته وضد رغبة اوساط كثيرة متضررة منه, او سيتم الالتفاف عليه بشكل ما وتعديل تطبيقاته. ودونالد ترامب بالتاكيد لن يستطيع تحقيق كل وعوده الانتخابية والعنصرية والاقصائية التي اطلقها خلال حملته وصوت لها الناخبون الامريكيون بالاغلبية. فنظامهم ليبرالي محكم الضمان وسيجبره على بلع جميع تهديداته او معظمها. اما قوانين مجلس النواب العراقي الاخيرة غير الليبرالية فمن السهولة ردها من محاكم دستورية ان احسن المتضررون في مقاضاتها. فالحقوق الليبرالية التي توصلنا لمجتمع مدني مسالم ومتعايش ومتقدم هي الاهداف العليا المقدسة والخطوط الحمراء لعالم اليوم. والديمقراطية هي الية للوصول الى تلك الاهداف والنتائج وليس الانقلاب عليها.