عندما يرحل المبدعون من هذا العالم تختلط مشاعري واحاسيسي فتارة تغمرني فرحة عارمة فالفوضى التي تعيشها البشرية لا مفر منها سوى الموت والخلود فعندما يرحل مبدع فهو يرتقي الى مرتبة عليا من السمو والرقي وتبقى اعماله شاهدة على تأريخ من الثورة والألم والوجع والحرية والعشق والانسانية والحضارة وفي ذات الوقت يحزنني خبر رحيل المبدعين الذين وضعوا بصماتهم في قلوب وعقول الناس لأن الابداع لا يتكرر بل يولد وينتهي به المطاف الى الخلود ……
اليوم رحل مبدع اخر اليوم يرحل ملحم بركات هذه الموسيقار الكبير الذي قدم لعشاق الطرب اجمل ما في جعبة الأوتار والكلمات كالعادة صعقني خبر رحيله وشعرت بالألم والوجع و تساقطت دموعي …..
ومتى جفت دموعي …..
وهل تجف دموع الشعراء والعشاق والثوار
ملحم بركات هذا الجبل الشاهق في عالم الفن كان مثالا حيا لما تبقى من نشوة وشموخ الفن الاصيل فمنذ صغري كانت اغانيه تقتحم ذاكرتي لم اكن اعرف من يكون ولم افهم ما يقول لكنني كنت ارى ابي العظيم يدندن مع صدى كلماته والحانه …..كبرت وكبر معي كل شيء واليوم ها أنا احصد ثمار ما ترعرعت معه فكرا وثقافة وفلسفة وعشقا فكل ما احبه ابي العظيم رحل بداية بنزار قباني وسميح القاسم ومحمود درويش وعبدالرحمن الابنودي واليوم يكتمل المشهد برحيل عملاق اخر من جيل المبدعين الرواد الذين وصلوا للنجومية في قلوب وعقول البشر كل هذا ورثته عن ابي العظيم وياليتني لم ارث منه شيئا فما تركه لي لا يتخطى الالم والوجع …….
فالموسيقار اللبناني ملحم بركات كان مدرسة غنائية لها قواعدها التي وضعت اسس عالم الغناء المعاصر فلقد استطاع إن يوظف الكلمة لخدمة اللحن في ابهى حلة ومن خلالها استطاع إن يكون مشهدا غنائيا نقيا توارثته الاجيال الواحدة تلو الاخرى فنقاء الصوت ونعومة اللحن كانت الصفات الاسمى لبصمته الفنية فلطالما كانت اغانيه وجهة العشاق وفي كل الامكنة والفضاءات فلا يحلو السهر مع الحبيبة دون اغنية لملحم بركات ولا يكتمل مشهد البحر دون اغنية تصدح حماسة ثورية بالعشق تطلقها حنجرة هذا الموسيقار الكبير ……
فمن يعشق سيبحث عن اغانيه الفريدة والنادرة فهي دواء الفراق واللقاء رغم انه يسكن الالم والوجع للحظات لكن ما إن يدخل المرء في أعماق الكلمة واللحن ويغوص في بحار معانيها سيشعر إن الالم والوجع قد زاد اضعافا فأغاني ملحم بركات والعشق كالزيت والنار لها تركيبة كيميائية عجيبة احيانا يقتحم الزيت النار فتزيده لهب واحيانا ينطفىء ويبقى الجمر مشتعلا دون ضجيج وصخب ……
فرصيده من عشق الجمهور تخطى بكثير عتبة موسيقاها والحانها وكلماته فلقد كان حديث الجماهير عند وقوفه على المسرح فبساطته وتواضعه كفنان جعل له قاعدة فنية شعبية لا تعد ولا تحصى واسلوبه المثير في الغناء لطالما كان محطة للدهشة والانبهار فهو من اوائل الفنانين المعاصرين الذين ابتكروا اساليب جديدة في الغناء من حيث الوقوف بين المقاطع الغنائية واضفاء طابع فني ترفيهي كوميدي طربي عليها من خلال ترويض طبقة صوته كي يجعل من الجمهور الواقف امامه يعيش لحظات من الطرب الاصيل …….فملحم بركات كان فنانا غريب الاطوار استثنائيا في كل شيء حتى في طريقة حديثه ولقاءاته مع الاعلام التي كانت مثيرة للجدل وان دل هذا على شيء فهو دليل على إن الفنان الحقيقي هو الذي لا يضع مكياجا لكلماته وحضوره على الشاشة ويظهر بشخصيته الإنسانية قبل الفنية وهذه هي الاقرب الى الجمهور …….
فرحيل مبدع لا يعني موته فالجسد يرحل بينما الروح تبقى حية شاهدة على الابداع والبصمة الابداعية التي يتركها هي باقية خالدة في العقول والقلوب ويتوارثها وتتناقلها الاجيال وما تركه اسطورة لبنان الفنية رصيد مليء بالعشق والمشاعر والاحاسيس وهذه هي القيمة الحقيقة لفن ملحم بركات التي لن تزول مهما تخطى الزمن عتبة الايام ……
فطوبى لشموخ الارز لمن صنع من اللحن والكلمة لغة وجعلها نهجا وسلوكا للتواصل بين العشاق ولترفرف رايات الابداع ولتقرع طبول النصر في يوم رحيلك يا موسيقار لبنان العظيم …….