المسجد الإصلاحي لا يعتمد على إظهار الشعائر الدينية بمقتضياتها الشكلية التي تؤول إلى عدم الالتزام بالمنهج السليم الذي يرتبط بالنواحي الفكرية، ولهذا يتعين الأخذ بما هو مخالف للمنهج السائد لدى شريحة كبيرة من الناس الذين يظهرون الدين على أنه عمل من الأعمال التي تمارس فطرياً أو وراثياً دون دراسة أو تمحيص لما يجري حولهم، ومن هنا نشأت الأفكار الهدامة التي أصبح لها أسياد في كل البقاع التي ينتمي إليها المؤمنون ما يؤدي بأمر دينهم إلى زوال وتباب، وبناءً على هذا نرى أن السعي في خراب مساجد الله لا يراد منه هدم الأحجار المكونة للبناء المادي، لأن ذلك لا يحتاج إلى جهد كبير نظراً لليسر الحاصل في إعادة تشييده على وجه مماثل أو أكثر رقياً، وقياساً إلى هذا الطرح نلاحظ أن هناك من اتخذ من هذا المنطلق ما يرضي غريزته الذاتية بغض النظر عن المراقبة الفعلية التي تجعل العمل متلازماً مع الغايات القريبة من الأفكار التي نزلت بها رسالة التوحيد.
ومما سبق نستنتج أن الأجواء القرآنية قد توحي بالذم المفرط في جميع المواضع التي تتحدث عن هذه الأفعال ما يجعلها في أسفل الدركات إذا علمنا أن عدم الالتزام لا يظهر أثره الفاعل في إعطائها الدور الريادي الذي يجب أن تنطلق منه، وقد أشار الحق سبحانه إلى هذا المفهوم بقوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون… إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين… أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) التوبة 17- 19.
وعند تأمل الآيات آنفة الذكر نلاحظ أن هناك فرقاً كبيراً بين العمارة المادية للمساجد وبين الإيمان بالله واليوم الآخر أو الجهاد في سبيله، وإذا ما تحقق الجمع بين المعنيين فإن الدرجات تكون رفيعة بلا أدنى شك، وهذا المعنى قد يرفد النتائج الإيجابية للإيمان الذي يرتضيه الحق سبحانه، ويمهد للقائم عليه جميع الأجواء التي تجعل سبيله إلى الرشد قاب قوسين أو أدنى، وبهذه الطريقة يصبح البناء المادي سبباً لنشر الفضيلة بما يتناسب مع الدور الريادي الذي يتكفل بإيجاد المنهج القويم لدين الله تعالى، وفي مقابل هذا النهج نلاحظ دور اليد الثانية التي تسعى إلى التخريب بدلاً من الإصلاح، وهذا النوع لا يتعدى إلى أكثر من تخريب الأفكار دون المباني إذا ما علمنا أن الاعتداء على الشعائر الدينية ومحاربتها يعد من أبشع أنواع الظلم، واستناداً إلى ما تقدم يظهر سبب نسبة المساجد إلى الله تعالى وهي نسبة تشريفية، وسيمر عليك تفصيل هذا المعنى في تفسير آية البحث.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) البقرة 114. الاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم من أولئك الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. فإن قيل: هل أن نسبة المساجد إلى الله تعالى تبنى على الحقيقة؟ أقول: في السياق إشارة إلى نوع من التوسع الاصطلاحي وتأسيساً على ذلك تكون الإضافة تشريفية، والإضافات التشريفية كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (أيام الله) الجاثية 14. وقوله: (تجري بأعيننا) القمر 14. وكذا قوله: (ولتصنع على عيني) طه 39. وقوله تعالى: (وعهدنا إلى
إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125. وكذلك قوله: (ناقة الله) الأعراف 73. هود 64. الشمس 13.
فإن قيل: سياق آية البحث يُظهر أن أظلم الناس هو من يمنع ذكر الله تعالى في المساجد ويسعى في خرابها، إلا أن هذا اللفظ قد يطلق على مصاديق مختلفة، كما في قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته) الأنعام 21. وكذا قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) الأنعام 93. وقوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) البقرة 140. وكذلك قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) الكهف 57. وهناك آيات أخرى تفيد المعنى نفسه، فكيف الجمع؟ أقول: الآيات التي ذكرت تشير إلى كناية إلهامية لا تخرج عن المبالغة في التعريف ولا يتعين أنها تتعارض من جميع الوجوه إذا علمنا أن أظلم على وزن أفعل التفضيل، وفي هذه الحالة يكون لكل ما ذكر من الآيات وجهاً خاصاً في الظلم بمعنى أن القرينة هي التي تحدد المراد، وتأسيساً لهذا الارتباط تظهر نسبية المتعلق وعدمية إطلاقه، أي أن من يمنع ذكر الله في المساجد هو أظلم ممن يقع عليهم مصطلح المنع بما هو منع في جميع حالاته، وكذا من يفتري على الله كذباً فهذا ينطبق عليه معنى أظلم الناس قياساً إلى الذين يفترون الكذب في مواطن أخرى وهلم جراً.
وقوله تعالى: (أن يذكر فيها اسمه) من آية البحث. أي كراهية أن يذكر فيها اسمه، ومن هنا كان الاتصال مناسباً لقوله تعالى: (وسعى في خرابها) من آية البحث. أي بعد العجز عن المنع تأتي مرحلة الهدم والتخريب على الرغم من الأمر التشريعي القاضي بمنع هؤلاء من دخول المساجد، بمعنى يجب عليكم منع الذين سعوا في هذا الإفساد بشقيه من أن يدخلوا المساجد وإذا ما استجيب للمنع فإن دخولهم سيكون على خوف بلا أدنى شك، ولهذا عقب تعالى بقوله: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها) من آية البحث. أي ليس لهم الحق في دخولها، فكيف يصل بهم الأمر إلى تخريبها، ومفهوم الآية يبين مدى التعريض المناسب للمؤمنين من جهة والوعيد للمانعين من جهة أخرى، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم) التوبة 28.
فإن قيل: ذكر غير واحد من المفسرين أن الآية تشير إلى الأرض بكاملها دون المساجد المتعارف عليها وذلك استناداً لقول النبي جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فهل لهذا التفسير من وجه؟ أقول الجهة منفكة بين قول النبي (ص) وبين الآية إذا ما علمنا أن اللفظ لا يحمل على العموم في جميع الحالات، وهناك أمثلة كثيرة في القرآن الكريم تبين ما نذهب إليه، كقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) آل عمران 110. وأنت خبير بأن اللفظ لا يدل على الاستغراق، ونظير هذا قوله في بني إسرائيل: (وأني فضلتكم على العالمين) البقرة 47. 122. ومنه قوله: (أو ينفوا من الأرض) المائدة 33. أي ينفوا من بلد إلى آخر لا أن ينفوا إلى السماء، وقوله تعالى: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) يوسف 55. وقريب منه قوله: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين) يوسف 80. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) آل عمران 173.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن