22 نوفمبر، 2024 6:53 م
Search
Close this search box.

الاشتراكية … بعد 99 عاما على اعلانها …( 3- 5)

الاشتراكية … بعد 99 عاما على اعلانها …( 3- 5)

3- الجزء الثالث –  تأثير ثورة أوكتوبر في العالم
انتشرت أثناء وجود الدولة الاشتراكية الروسية تجارب اشتراكية أخرى في بلدان كثيرة في أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا متأثرة بنجاحات سياساتها الاقتصادية والاجتماعية. ومن أمثلة ذلك في أوربا التجارب التي انتهجتها حكومات دول وسط وشرقي أوربا بعد الحرب العالمية الثانية. فبعد تحريرها من النازية الالمانية بمساعدة الجيش الأحمر السوفيتي عام 1945 انبرت الاحزاب العمالية والشيوعية والأحزاب الوطنية الديمقراطية التي قاومت الاحتلال النازي معا بتشكيل حكومات ائلافية ووضع برامج عمل لاعادة بناء ما خربته الحرب والانتقال ببلدانها الى الاشتراكية وفق ظروفها الخاصة بمساعدة قيادة الاتحاد السوفيتي. لقد نجحت الدول المذكورة نجاحا باهرا في اعادة بناء ما تركه الاحتلال النازي من خراب شامل وخلال ذلك باشرت بناء اقتصادها على أسس اشتراكية آخذة بنظر الاعتبار القطاع الفردي الخاص في الزراعة والصناعات الحرفية الصغيرة والخدمات حيث احتل انتاجها حوالي 20%  من ناتجها القومي الاجمالي.
 
تلت ذلك الصين الشعبية بعد انتصار الجبهة الوطنية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني عام 1949 فكانت لها تجربتها الخاصة لبناء الاشتراكية التي انتهجتها حتى عام 1978 باشرت بعدها تجربة جديدة أطلقت عليها اشتراكية اقتصاد السوق وفق المنظور الصيني. أخذ بالمنظور الصيني  الجديد عندما انتصر التيار الاصلاحي في قيادة الحزب الشيوعي الذي قام على اثره بتغييرات جوهرية في السياسة الاقتصادية الصينية عدت تراجعا كليا عن الخط الاشتراكي الذي وضع موضع التطبيق في عهد زعيمها حينها ماوتسي تونغ عام 1949. وما يزال الحزب الشيوعي على رأس السلطة الصينية وتحت قيادته يتطور الاقتصاد الصيني الرأسمالي تقوده آلاف الشركات الخاصة مع دور مهم لقطاع الدولة في التصنيع والتجارة الدولية والاشراف على نشاطات القطاع الخاص الصيني. وقد سمح النظام القائم لنشاط واسع  للشركات  الرأسمالية الاجنبية في البلاد.
 
 كما كان للدولة الكورية الشمالية والفيتنام وكوبا تجاربها الاشتراكية. كما ظهرت محاولات لبناء الاشتراكية وفق منظور قادتها الوطنيين الذين عززوا علاقات بلادهم السياسية والاقتصادية بالاتحاد السوفيتي كما في جمهورية اليمن الجنوبي نهاية السبعينيات ومصر العربية والشيلي وفنزويلا واثيوبيا وليبيا وزيمبابوي وأنغولا وموزامبيق وغرينادا والكونغو برازافيل وغيره. واجهت التجارب الاشتراكية تلك المصاعب منذ اليوم الاول لمباشرتها تنفيذ اجراءات البناء الاشتراكي حيث زجت في حروب محلية واقليمية تعرقلت بنتيجتها عمليات البناء والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالحرب الكورية التي افتعلت عام 1950 قد خربت اقتصاد البلاد ماتزال آثاره حتى اليوم. والأفظع من ذلك واجهته دولة فيتنام ، فما أن تحررت من الاستعماريين الفرنسيين حتى تعرضت للغزو الأمريكي تحت تأثير سعار العداء للشيوعية الذي طبع السياسة الخارجية الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة خروج روسيا منها منتصرة على النازية الالمانية ما عزز من شعبية الفكر الاشتراكي والدولة السوفيتية.
 
  العدوان الأمريكي على فيتنام الذي استمر منذ عام 1956 حتى عام 1972 كبد الشعب الفيتنامي حوالي 700 ألف قتيل  و15 مليون جريح ومعوق اضافة الى التكاليف المادية التي لحقت بالبلاد خلال فترة السبعة عشر عاما من الحرب. حيث ألقت الطائرات الأمريكية خلالها من القنابل والمتفجرات والمواد الكيماوية الحارقة ما مجموعه 7،555،880 مليون طن في حين لم يزد ما ألقته طائراتها على قوات المحور خلال الحرب العالمية الثانية عن 2،562،440 مليون طن من تلك القنابل. ورغم تلك الحرب العدوانية الطويلة انتصر الفيتناميون في اعادة توحيد بلادهم مع الجزء الجنوبي بعاصمتها سايغون بعد هروب حكومتها مع اندحار الجيش الامريكي الذي كان نظام سايغون تحت حمايته. لقد باشرت فيتنام بناء تجربتها الاشتراكية بمعونة ودعم روسيا الاشتراكية والبلدان الاشتراكية الاخرى ، لكن الاشتراكية في فيتنام تعثرت هي الأخرى بعد الاطاحة بالتجربة الاشتراكية الروسية التي كانت مصدر الدعم الاقتصادي والفني والعسكري. كما تمت تصفية محاولة بناء الاشتراكية في اليمن الجنوبي وأثيوبيا والشيلي فيما تواجه كوبا وفنزويلا المصاعب التي وضعتها في طريقها الأوساط العدوانية الأمريكية.
 
 لم تعارض الولايات المتحدة الأمريكية الدول التي تحاول انتهاج الطريق نحو الاشتراكية فحسب ، بل قامت بشن حروبا عدوانية ضد الدول المستقلة التي ترتبط بعلاقات جوار وتعاون ايجابية مع دول فيتنام وكوريا الديمقراطية والصين الشعبية والدول الاشتراكية. لقد تعرضت دولة اللاؤس وكمبوديا المحايدتين للغزو الأمريكي الذي استمر تسع سنوات منذ عام 1964 وحتى عام 1973. خلال فترة العدوان الامريكي على اللاؤوس ألقت طائراتها أكثر من مليوني قنبلة خلال غارات تجاوز عددها 58000 ألف غارة وعلى مدار 24 ساعة في اليوم دون انقطاع بما يعادل غارة كل ثماني دقائق وبما يعادل طنا من المتفجرات على كل رجل وامرأة وطفل وتعتبر لاؤوس البلد الأول في التاريخ الذي تلقى تلك الكمية من المتفجرات بدلا من الحبوب والمساعدات المادية الأخرى التي كانت كمبوديا واللاؤوس في أمس الحاجة اليها.
 
لم تشعر الولايات المتحدة بالحرج وهي زعيمة العالم الحر وحامية الديمقراطية كما تدعي من شن الحرب على دول الهند الصينية الفقيرة التي تبعد عنها آلاف الكيلومترات ، والعجيب ان الحكومة الامريكية لم تستحصل موافقة مجلسي الكونغرس على شنها تلك الحرب غير المعلنة التي  استمرت سرية بحجة خضوع تلك الدول للاحزاب الشيوعية الستالينية. ولتمويل الحرب قامت السي آي أيه بتشجيع قبائل Hmong  من سكنة التلال في اللاؤوس على زراعة الأفيون والتجارة به وتكلفت شركة الطيران Air American  العائدة للسي آي أيه بنقل الأفيون الى خارج اللاؤوس والمتاجرة به*.
 
  تجربة روسيا الاشتراكية هي الأخرى تعرضت للحروب العدوانية منذ سنينها الأولى،  فمع بدء البناء السلمي لارساء أسس الاقتصاد الاشتراكي واجهت حرب التدخل التي شنتها عام 1918 الدول الامبريالية أمريكا وبريطانيا وفرنسا واليابان وعشرة دول أوربية أخرى في وقت كانت تحاول اعادة بناء اقتصادها المنهار وقواتها المسلحة بعد قرارها بالانسحاب من الحرب العالمية الأولى. فالدولة الاشتراكية اعلنت أثناء ما كانت الحرب ماتزال مشتعلة وتستنفذ مواردا بشرية واقتصادية هي في أمس الحاجة اليها. وخلال ذلك كانت قوات النظام الرجعي السابق تحاول اعادة عجلة التاريخ الى الوراء عن طريق اعادة ترتيب قواها فباشرت ببدء الحرب الأهلية لافشال خطط بناء النظام الاشتراكي الجديد.
وقد ترتب على قيادة الدولة الفتية بتجربتها الجديدة الانتهاء من تلك الحرب باسرع ما يمكن من الوقت للتفرغ لبناء الهياكل الأساسية للنظام الاشتراكي الجديد الذي كانت أولى مهامه انهاء الاستغلال الاقطاعي العبودي الذي استغل غالبية الأراضي الزراعية لأجل مضاعفة ثرائه بينما تعاني من الجوع الملايين من المزارعين الروس. وخلال ذلك كانت الدول الأجنبية تمد القوى الرجعية المعادية للسلطة الجديدة بالدعم المادي والمعنوي لافشال سياسات البناء الاشتراكي  حتى لاتكون مثالا تحتذي به دولها والدول الدائرة في فلكها. وفي خضم الصراعات السياسية الداخلية التي لم تتوقف عن زعزعة استقرار النظام الجديد اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 ثم الهجوم النازي على الدولة الاشتراكية الفتية عام 1941 التي كبدت البلاد أثمن وأهم مواردها البشرية والاقتصادية التي استنزفت أثناء الدفاع عن البلاد وايقاف الزحف النازي ثم تحرير كامل التراب الروسي من فلوله.
 
 عندما تسلم المرتد ميخائيل كورباجيف قيادة الدولة عام 1985 بدا واضحا انه جاء بمهمة  اصلاح النظام الاشتراكي ومع انه استمر في الحكم شكليا حتى عام 1992 لكنه عمليا بدأ بمهمة انهاء النظام منذ استلامه مهامه كسكرتير أول للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1985. وفي السنوات الخمس التي أمضاها كورباجيف في منصبه توقفت تماما عملية البناء الاشتراكي بينما سادت حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية وسادت حالة من الهلع بين الناس لم تشهد روسيا لها مثيلا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ففي الوقت الذي كان الاقتصاد السوفييتي يتهاوى نتيجة التخريب المفتعل الذي باشرته مافيات الفساد الذين قادوا عمليات السوق السوداء في انحاء البلاد لسنين طويلة كان كورباجيف يلهث باتجاه عقد لقاءاته مع الرئيس رونالد ريغان.
 
فبعد 8 أشهر من وصوله الى السلطة قام بعقد أول اجتماع قمة بينه وبين الرئيس الأمريكي رونالد ريغان استغرق يومين اعلن بعده عن بعض التفاهمات حول خفض حالة التوتر بين البلدين والتوقيع على اتفاقية خفض اعداد الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى وخفض المخزون النووي لحدود أدنى مما كان في حوزة البلدين. وباعلانه عن تلك التفاهمات اعطى الانطباع بانه قادر على التفاوض واجبار الجانب الامريكي على تقديم التنازلات لكن واقع الحال يشي بالعكس تماما. فكورباجيف نفذ أهم أهداف رونالد ريغان التي كرس السنين الأربعة من حملته الانتخابية والفترة الأولى من رئاسته للقصر الأبيض وهو انهاء النظام الاشتراكي واحلال النظام الرأسمالي بدله. حيث كان للرئيس ريغان برنامجه المعد جيدا مسبقا قبل دخوله البيت الأبيض للقضاء على النظام الاشتراكي وبدأ في تنفيذه حال استلامه لمنصبه عام 1980 حوالي الخمس سنوات قبل استلام كورباجيف منصبه عام 1985. فما هو برنامج ريغان ..؟؟
 
في شهر كانون الثاني يناير 1977 اربعة سنوات قبل دخوله البيت الأبيض صرح لبعض المقربين له من الحزب الجمهوري انه يفكر بالحرب الباردة وانه يحمل حلا قائلا ” نحن سننتصر وهم سيخسرون” وكان يعني بذلك الانتصار على المعسكر الاشتراكي . وما أن انتخب رئيسا للبيت الأبيض باشر سياسته الهجومية ضد الاتحاد السوفيتي معلنا ان وقت سياسة الاحتواء قد ولى وعلينا العمل من أجل الفوز.  السياسة الخارجية الأمريكية المتبعة حينها ولفترة طويلة هي تحاشي الصدام مع الدولة السوفيتية والتركيز على السبل الدبوماسية ، وهو ما حاول مستشاراه للسياسة الخارجية والاقتصادية اقناعه به وهما البروفيسورJohn Kenneth Galbraith  و Arthur Schlesinger مبررين ذلك بالقول ” ان الاتحاد السوفيتي قوي اقتصاديا وعسكريا وان استمرار سياسة الاحتواء والحوار هي افضل لأمريكا “
 
لكن للرئيس الكلمة الفصل ، ففي أول مؤتمر صحفي عقده بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية أعلن فيه ان :” الاتحاد السوفيتي يسعى للثورة العالمية من أجل دولة اشتراكية واحدة للعالم لكننا لن نسمح بذلك فالشيوعية تتهاوى وهي على وشك الانهيار وانه يتحمل المسئولية عن ستراتيجية النصر”. وقد اعتمد في اتخاذه هذا الموقف على تحليله الخاص وعلى التقارير الاستخباراتية التي توضع تحت تصرفه. فقام بعقد 57 اجتماعا لمجلسه القومي خلال العام  الأول من حكومته لرسم السياسة التي تنسجم مع الهدف الذي سعى اليه وهو تدمير الاتحاد السوفييتي. وباشر بتوجيه خطابات مباشرة الى شعوب الدول الاشتراكية عبر وسائل الاعلام التي كثفت نشاطاتها استجابة لأوامره واعدا أولئك الذين يعيشون خلف الستار الحديدي لحوالي 40 عاما بأن النصر قريب وان العالم الحر لم ينساهم. كما خاطب الهنغاريين بوجه خاص وأثنى على على مظاهراتهم التي قاموا بها عام 1956 وما بعدها. وفي عام 1981 في الذكرى 25 لانتفاضتهم وجه خطابا خاصا بالمناسبة قال فيه ” ان كفاحكم  من أجل الحرية قد قوى عزيمة الأمريكيين للعمل من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية لكل الناس”. وكرر ذلك في خطابه في مجلس العموم البريطاني عندما زار بريطانيا عام 1982.
 
في حقيقة الأمر ان الرئيس ريغان قام باستكمال المهمة التي بدءها سلفه الرئيس الأسبق الأمريكي هاري ترومان في عام 1949 عندما باشر الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي في عهد وزير خارجيته دين أجيسون. فقام هذا بصياغة السياسة الخارجية الأمريكية معتمدا على تقرير عالي السرية اعد من قبل السفير الامريكي السابق في موسكو ورئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية جورج كينون بالتعاون مع بول نيتز رئيس مجلس الأمن القومي حينها. وقد اعطي التقرير عالي السرية الرمز NSC- 68 الذي ورد فيه بان الخلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي هي ” كفاح بين مجتمع الحرية ومجتمع العبيد.” لهذا لا يمكن استغراب ما يصدر عن سياسي الولايات المتحدة الذين خلفوا الرئيس ترومان من سياسات معادية للشيوعية هدفها تحجيم النظام الاشتراكي الذي تعاظم دوره وشعبيته بعد انتصاره على النازية الالمانية في الحرب العالمية الثانية.
 
لقد ورد بذلك التقرير العالي السرية ان على الولايات المتحدة انتاج القنبلة الهيدروجينية لدفع سياسة سباق التسلح الى أعلى مستوياتها منطلقين من اعتقاد بأن ضعف الولايات المتحدة يقود الى العدوان عليها. لكن بعد اجراء التجربة الناجحة للقنبلة النووية من قبل السوفييت عام 1949 دب الفزع في نفوس القادة السياسيين الأمريكيين بسبب فقدانهم ميزة التفوق العسكري على الاتحاد السوفيتي حيث تحول الاحتكار الأحادي للسلاح النووي  الى احتكار ثنائي.
 
لقد ساد الاعتقاد بعد ذلك بأن الرئيس السوفيتي جوزيف ستالين ربما يباشر بصنع Thermonuclear Weapon وهي قنبلة تعادل الواحدة منها تفجير ألف قنبلة نووية ، وبالفعل أعطى الخبراء الأمريكيون الانطباع بأنهم يأخذون ذلك في الاعتبار وسيباشرون في صنع هذا السلاح الفتاك ليدفعوا الاتحاد السوفيتي بالفعل الى الدخول في السباق لجره الى سباق تسلح مكلف جدا، لكن لم يثبت تاريخيا ان تم انتاج مثل هذا السلاح لا في حياة القائد السوفيتي ستالين الذي يعود له الفضل في كسر احتكار السلاح النووي ولا في عهد غيره من القادة الآخرين الذين جائوا بعده. لكن بعد وفاة ستالين أحيطت القيادة السوفيتية علما بفحوى التقرير الأمريكي العالي السرية  NSC – 68 الذي حث على صنع القنبلة الهيدروجينية ما دفعها الى الرد على تلك النوايا لتحذير الامريكيين من عواقب تسريع سباق التسلح.
 ففي خطابه في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفيتي وبعد انتخابه سكرتيرا عاما للحزب أعلن جورجي مالنكوف ردا على تلك التقارير بالقول ” ان من يطرق الباب يسمع الجواب وان الاتحاد السوفييتي قادر على انتاج القنبلة الكوبالتية وليس فقط الهايدروجينية “.
يتبع في الجزء الرابع

أحدث المقالات