تشكل ثنائية الموت والحياة في سردياتنا التاريخية والأدبية حضورا لافتا، فمنذ القدم وتاريخنا وأساطيرنا الأدبية تزخر بصور ودلالات تعكس الصراع مابين الموت والحياة، والذي يأخذ شكلا أسطوريا بحثا عن الخلود ، وهو ما يشكل بعدنا الثقافي المضمر في أغلب سردياتنا ، لكن رغم السوداوية البادية المتمثلة بحتمية الموت، يظل تصورنا للموت يتشكل عبر فلسفة الحياة ، وهو ما يندرج ضمن تصور فلسفي وجودي << إن الشيء يحمل داخل تكوينِهِ نقيضَه دائما >> وهو ما يستدعي القول من نواة الموت تولد الحياة .
تمثل رواية أطلس عزران البغدادي ،الصادرة عن دار ميزوبوتاميا –بغداد –لسنة 2015 للروائي (خضير فليح الزيدي )واحدة من الروايات التي تعتمد في مضمونها الفكري على التقاط دفق الحياة من صور الموت، وذلك من خلال الحفر عميقا في خفايا وأسرار (جينالوجيا ) الخطاب السردي عبر خارطة الموت العراقي لكشف أسبابه ومن يقف وراء صناعته والداعمون له، لذا كان سعي الكاتب منصبا في اغلب فصول الرواية على كشف وتوثيق تداعيات زمن الموت ما بعد 2003 .
اعتمد الكاتب في سرد حكاياته على بعدين؛ الأول مباشر، يعتمد رصدا وتوثيقا دقيقا لحياة ما تبقى من اليهود داخل العراق منذ تشكل الدولة العراقية الحديثة والى ما بعد 2003، أعدادهم وأسباب تهجيرهم و والمتبقي منهم، أما البعد الآخر وهو ما يعنينا في هذه الورقة النقدية هو البعد الفني والموضوعي الذي يرتبط بكيفية سرد الأحداث وتوظيفها داخل النص الأدبي وانعكاس ذلك على باقي النص ،وهو ما يستدعي منا التروي في رصد ومتابعة حركة السرد من العتبة الأولى (العنوان) وصولا إلى آخر العتبات (الخاتمة ). (المتخيل الفني ):
يؤثث الكاتب فضاءه السردي باستثمار العديد من أساليب السرد الحديثة كالأسلوب الصوري والافتراضي والأسطوري الذي يعتمد الدقة الفنية والعلمية في توثيق الأحداث وبنائها، معززا ذلك بتقنيات الوصف التي تعتمد ما يسمى بالسينمائية في حركتها ودقتها، كما إن تنوع لغة السرد ساهم في تكثيف النص بألاعيب اللغة؛ مثل الاستعارة والإدهاش ساهم ذلك في إعطاء مساحة اشتغال أوسع من حيث الشكل والمضمون (انفجرت سيارة مفخخة الآن في شارع السعدون ببغداد ..السيارة المفجرة كانت متوقفة خلفي في هذا الشارع كما ترون … كانت سيارة نوع سايبا تكسي، وفي عمق الصورة من بعيد يظهر لكم سياج المعبد مئير طويق … وكما تشاهدون هناك طيور بنت أعشاشها على هامته المتآكلة رغم أنها طيور مفزوعة أصلا وقد انتزع العصف المدوي ريشها وجعلها أشبه بدمى محنطة فوق هامة المعبد )ص21.
ولأن السرد فن توثيق، كان لابد للسارد المؤلف إن يكون حاضرا وبقوة في كل مفاصل الرواية ومهيمنا على اغلب تفاصيلها ونسج أحداثها، بغض النظر إن كان المؤلف يختبئ خلف قناع إحدى الشخصيات، أو ساردا خارجيا كلي العلم، وهو ما يبرر استخدام طرق الروي مرة بصيغ المتكلم (أنا) أو بصيغ الغائب ( هو ) ما يكشف استحواذ الكاتب على كل مفاصل السرد .استثمر الكاتب المتخيل الأسطوري الرمزي كرؤية فنية مركزية لكسر رتابة الأحداث وواقعيتها وجعل النص ينفتح على تناصات أدبية وفنية حديثة مثل رواية (افرانكشتاين في بغداد)،وراية (وقياموت) وتناصات دينية أسطورية تاريخية مثل القصص الدينية والملاحم والتي لازالت تمتلك حضورا اجتماعيا وأدبيا قويا لدى الكثير من العراقيين، إذ تتشكل هذه التناصات من خلال عتبات النص الرئيسية والتي تبدأ من العنوان (أطلس عزران البغدادي ) وصولا لآخر الفصول (موت بقرصة ذبابة ) ص 225،حيث تشكل هذه العتبات الخيط الناظم لجميع فصول الرواية (26) . وكون اللاوعي الجمعي يمثل للسارد مجاله الحيوي الأكثر حضورا وتأثيرا في سلوكنا الجمعي بما تختزله الذاكرة الجمعية من أحداث تحيل دائما إلى العنيف والأكثر دموية من الرموز والأسماء الأسطورية ذات الدلالات النفسية والشعبية، كان لابد لهذا اللاشعور أن يعيد إنتاج رموز العنف القديمة المباشرة (أبو طبر أو جماعة الكف الأسود ، ورموز دينية غير مباشرة ؛عزرائيل (وعلى وفق روايتي .. إن عزران هذا ليس سوى القدر المنزل من السماء ، وهو نسخة من عزرائيل محدثة ) ص40 على الرغم من واقعية وبشرية الأحداث التي تقع في بغداد ،انفجارات ،وخطف، واغتيال ،لكن ظل المتهم الوحيد وبطل الرواية هو (عزران) ) الذي نصفه بشر ، يضاجع ،ويتأنق ويحمل مسبحة ويكره ويجوع ،ونصفه الآخر شبح هلامي يحيي ويميت (يلاحق الجميع من خلف زجاج الحوض يضحك عندما يرتطمون بقاع الحوض – الساخن وسرعان ما تنط جماعات جماعات إلى سطح الحوض بحثا عن الهواء ليلتقطهم بمنقاشه واحدا بعد واحد )ص41
.حركة الزمن داخل الرواية حركة لولبية بطريقة الذهاب والعودة بشكل متقطع ماضٍ /حاضر، كون الزمن يتوزع مابين حكايتين؛ الأولى عن (يهود العراق )الممثلة بشخصية رغيد حزام كشاهد على تاريخ القمع والوحشية والإخصاء والإقصاء الذي تعرضت له الطائفة اليهودية بفعل سياسة القتل والتهجير القسري والتي تبدأ من منتصف الاربعينيات والى يومنا هذا (تحولت إلى رجل مخصي … وقبلت الأمر إلى هذا الحد ..لكن القادم كان أعظم)ص121 – أما الحكاية الثانية هي حكاية حب مابين نورا السنية وسامر الشيعي والتي تنتهي بالانفصال والحقد التاريخي ما بين الطائفتين والتي تسردها نورا بطريقة الاعترافات على شكل رسائل بريد اليكتروني إلى الصحفي في جريدة النوارس (محمد رياض ) تروي فيها قصة الحب التي جمعتها مع زميلها في المؤسسة سامر، حيث تناط لهم مهمة البحث عن آخر يهودي في العراق بدعم من مؤسسة الإخوان الإنسانية التي يديرها يهودي عراقي ثري (نعيم دنكور) لتتحد الحكايتان في حكاية واحدة تشكل ثيمة الرواية بمجملها وهي (صراع الهويات المصممة تاريخيا ) حيث تتشكل هذه الهويات الفرعية بفعل الصراع السياسي والديني من خلال إعادة إنتاج وتحفيز وجودها الايديولجي العنصري اتجاه باقي الشركاء في الوطن الواحد وهو ما يستدعي لحظات العنف و الصدام التاريخي، كالصراع الديني اليهودي/ أسلامي اوالسني/ الشيعي، أو يأخذ شكل عرقي كردي/ عربي، وتركماني /كردي،غربي/ عربي….الخ من الصراعات الدائرة اليوم، لذا كان اختار الكاتب بغداد كنموذج حي لهذا الصراع اختارا محمودا .
وفق الكاتب في جعل المكان في الرواية مكانا محايدا (أليفا) رغم حجم الصراعات والطائفية والإقصاء المتبادل ما بين مختلف المكونات ، لكن ظلت بغداد بجسورها ،ونوارسها، وشوارعها، وقصص الحب التي ميزتها شاخصةً تذكر دائما ببغداد السلام والحب والحضارة رغم عمق جراحها وحجم المؤامرات التي تنسج من الداخل والخارج حولها لكنها ظلت المكان العابر لكل الطوائف والأقليات (عشت في بغداد متخفيا في السنين الأخيرة، فبغداد مدينتي التي تكرهني وأحبها ) ص225.
موضوع الرواية
الرواية بمجملها نجحت في تسليط الضوء على الجانب السياسي المضمر خلف رداء الدين والعرق والقبيلة، من أجل بث روح الفتنة والصراع مابين مختلف مكونات البلد الواحد مستفيدا في الوقت نفسه من انغلاق هذه المكونات على هويتها المصممة كملاذ وجودي، لكن فاتها أن تفهم أن هذه الهويات لا قيمة فعلية لها بدون وطن وهوية وطنية موحدة تحمي حقوقها وكرامتها وتاريخها ولا يتم ذلك إلا برفض هذه الهويات بالتلاحم الوطني والشعبي اتجاه المخاطر الخارجية والداخلية .