لمناسبة حديث الإعلام العراقي عن المطارات السومرية وسفن الفضاء المنطلقة منها على أعقاب تصريحات السيد وزير النقل والمواصلات، أشار بعض الأخوة الأكاديمين إلى ورود إشارات عن موضوعة سفن الكواكب في مثولوجيا وادي الرافدين، ومنها المثولوجيا المندائية.
نعم، يرد في الأدب المندائي إشارات إلى سفن في العالم الخارجي غير العالم الأرضي إشارة رمزية لأسلوب وأداة الإنتقال. فمع إن العـقيدة المندائية تحرم الشواهد والأصنام وتحذر من عبادتها الباطلة، إلاّ أننا نجد أن الكتب المندائية وبخاصة الدواوين، وهي الكراسات التي تشرح وتوضح العقيدة والطقوس، قد إحتوت الكثير من الرسومات حتى صارت ميزة فيها. وهذه الرسومات تأخذ الشكل التوضيحي والرمزي ولم ترسم بشكل كيانات تصويرية في دور العبادة أو المنازل، وقد إقتصرت عملية الرسم داخل الدواوين فقط . وهذا يعني أن النظر إليها يكون من خلال النصوص التي وجدت ضمنها لإن الكثير منها لا يفهم بدون هذه النصوص. ولم يتهيب الناسخ المندائي من وضع الرسوم التوضيحية والتخطيطية لأنه يدرك بأنها مؤشرات لما يرد في عقيدته من ذكر للملائكة والنورانيين، وكذلك للأفراد في حالات متنوعة سواء في إجراء الطقوس الدينية أو في تصوير مسيرة عروج النفس والمراحل التي تمر بها في المطراثي “وهي المطهرات أو الموقفات التي توقف فيها النفس بعد الموت من أجل المحاسبة والتطهر، مطهرا تلو الآخر حتى تتخلص من خطاياها “. وتتعدد مواضيع الرسومات لتشمل رسوما تخطيطية لأشخاص، ونباتات، وحيوانات، وطيور، وأنهار، وسفن أيضا. وتجدر الإشارة الى أن بساطة هذه الرسومات من حيث طريقة الرسم وعدم الإلتزام بدقة أبعاد الأشكال وتحددها ببعدي الطول والعرض يجعل منها رسوما توضيحية دون أن تكون لها قيمة تعبيرية بحد ذاتها. وهذا يعني أن الناسخ المندائي كان حذرا أن لا تضفي هذه الرسوم أية قيمة قدسية فتؤخذ مأخذ الإحترام والتقديس، وهو أمر لا تقره العقيدة المندائية. فلجأ بحسب حاجته للرسم الى إعتماد هذه الصيغة التخطيطية المجردة، السطحية والمبسطة في رسوماته، وقد نجح في ذلك بشكل كبير.
أما ما يتعلق بالسفن مدار الحديث، فهي تقوم على جانب في المعتقد المندائي مفاده أن الأنفس التي تطهرت في الموقفات أو المطهرات وبعد أن توزن مقابل نفس النبي شيت (ع) كأطهر الأنفس البشرية، تكون جاهزة للإنتقال إلى عالم النور. وحيث أن هنالك مياه فاصلة تحد بين المطهرات والإنتقال إلى ما هو أعلى، فإن الأنفس التي تـُنقل إلى عالم الحق والطهارة عليها أن تعبر المياه الفاصلة هذه. وهذا العبور يكون بواسطة سفينة تسمى سفينة ناقلة الأرواح حيث تأتي في كل يوم أحد لتقوم بنقل المطهرين الطاهرين.
ويظهر الرسم التخطيطي لهذه السفينة أنها رسمت بشكل مقوس بما يقرب من نصف دائرة، تتوسطها سارية طويلة تنتهي بدائرة وثبت عليها هلال وراية “درابشا” ولوح مستطيل يتضمن ستين عينا مدورة لمراقبة قوى الشر (تأسيسا على النظام الستيني البابلي). ويظهر شكل السفينة أنه مألوف لتقاربه مع شكل السفن في جنوب العراق، كما أن مادة صناعة السفينة، كما يظهرها الرسم، هي رزم القصب (شبا) التي تظهر طريقة ظفر هذه الرزم بما يشكل الهيكل. ويمكن أن تكون السفينة مطلية بالقار وهي المادة المتوافرة في العراق، والتي إستخدمت منذ القدم في بلاد ما بين النهرين في تبليط الشوارع والبناء أيضا.والنوع الثاني هو سفن الأفلاك، وهي ثلاثة سفن تمثل ثلاثة أفلاك هي الشمس، والزهرة، والقمر. وقد
رسمت هذه السفن الثلاث بأشكال متقاربة، وهي تختلف الى حد ما عن رسم سفينة ناقلة الأنفس. فالشكل هنا يعتمد على الخطوط المستقيمة لتشكيل القاعدة العريضة نسبيا. أما طرفا السفينة المتصلان بالقاعدة فينتهيان بشكل مدبب. وفي نهاية الطرف الأيمن لسفينة الشمس هنالك رسم يشير الى الشمس بشكل قرص محاط بخطوط مستقيمة. أما نهاية الطرف الأيمن لسفينة القمر وهو أطول من الطرف الأيسر فينتهي بأغصان نباتية. أما الطرف الأيسر للسفينتين وكذلك طرفي سفينة الزهرة فينتهيان بشكل يشبه نصف مثلث. سفينة الشمس هي الأكبر حجما ثم تأتي سفينة القمر ثم سفينة الزهرة. ترتكز في السفن الثلاث سارية تحمل راية “درابشا”، إلا أنها لا ترتكز في وسط السفن بل تقرب من جهة اليسار. أما رسوم الأشخاص فتتوزع على مساحات السفن بشكل متناسق بعضها على القاعدة والآخر يأخذ بعدا ضمن فناء السفينة. ولم يظهر في السفن الثلاثة وجود الملاحين، مما يشير الى أن هذه الأفلاك تسير بقدرتها الذاتية الخاصة.
لقد إعتمد المندائيون رسم السفن كوسائط لنقل الأرواح وحركة الأفلاك إنطلاقا من أن الحياة لا تنتهي بالموت، بل أنه ولادة لحياة ثانية. وأن العبور للحياة الثانية يتطلب وسيلة نقل فكانت السفن إشارة الى أن هذه الوسيلة هي الأكثر تعبيرا وإدراكا في القدرة على الحركة والنقل في آن واحد، وربما هي الأكفئ والأكثر أمانا وإنسيابية من خلال قدرتها على الإبحار سواء في الطبيعة المادية أو في العالم الخارجي. وإعتمادها بهذا الشكل يوفر فرصة قبولها من حيث النظر، وربما تتيح للناظر فرصة ركوبها الفرضية بما تجعله يطوف بها كناقلة للأرواح مثلا.
وقد أدى إعتماد السفينة للنقل تزويدها بكل متطلبات الإبحار من مقود “سكان”، وأدوات جذف، وسارية، وقائد أو موجه، بالإضافة الى الحارس المجهَز بالسلاح والمُتخذ وضع الحماية والدفاع ضد أي خطر أو تهديد من عوالم الشر. ويلاحظ أن السلاح المستخدم هو القوس والنشاب مع وجود رسم للسيف أو الحربة بإشارة الى أن دور الحارس هو الجاهزية والتسلح دفاعا ضد الشر الذي يمكن أن يتأتى من الكواكب أيضا.
أما الأشخاص فتظهر رسوماتهم بأنهم في حالة وقوف، مما يدل على أنهم في حالة مسير وعمل الى حين بلوغ الهدف. ويشير وجود البحارة في السفن الى أن الأدب المندائي قد إعتمد التعبير عن الحركة في هذه السفن على القدرة الذاتية ولم يلجأ الى إستخدام الأجنحة للملائكة من أجل الطيران ولا الحيوانات الخرافية كالثور المجنح أو الطيور الكبيرة. فالرسام أبرز فكرة العقيدة المندائية في أن قدرة الحركة ذاتية ومرتبطة بكل كيان، بما يماثل الواقع الدنيوي الملموس في الإعتماد الذاتي في الدفع والحركة. حتى أن أدوات الدفع والقيادة جاءت مشابهة تماما لما معروف في البيئة المادية المعهودة في جنوب بلاد بين النهرين. وبعد، فإن المثولوجيا المندائية لم تشر إلى مطارات أو سفن فضاء أو مركبات تنطلق من الأرض إلى الفضاء الخارجي وتعود، بل إنها ماثلت الوسيلة التي تسير بها الروح في العالم العلوي بالسفينة الأرضية في رسمها وشكلها ومادتها وطريقة سيرها. وأكثر من ذلك فإنه يرد في الأدب المندائي وبكتابهم المقدس “الكنزا ربا” أن النفس المنطلقة لعالم النور تزود في مسيرتها بثلاثة أسهم للوصول، تنطلق بالسهم الأول فتمتلئ النفس بالنور، وبالسهم الثاني تتوهج النفس فرحة نقية كالبلور، وبالسهم الثالث تصل النفس إلى بلد النور. وكأن في ذلك المراحل الثلاثة المعروفة اليوم للإنطلاق السريع لصاروخ نقل المركبات الفضائية للعالم الخارجي.