البشرية عرفت في مسار الزمن، ثلاثة أنظمة عقلية على التوالي، ثلاث تصورات كبرى للعالم:
التصور الإحيائي (الميتولوجي)، والتصور الديني، و ألتصور العلمي. وربما كانت الإحيائية بين جميع هذه الأنظمة أكثرها منطقية وشمولا، النظام الذي يفسر ماهية العالم، بدون أن يترك شيئا قيد الخفاء. والحال أنّ هذا التصور الاول للعالم من قبل البشرية هو بمثابة نظرية سيكولوجية. ولكننا نجاوز هدفنا لو أردنا أن نبين ما بقي قائما من هذه النظرية في حياتنا المعاصرة، سواء أفي شكل منحط هو شكل التطيّر والإيمان بالمعتقدات الباطلة، أم كمضمون حي للغتنا ومعتقداتنا وفلسفتنا.
إنّ الإحيائية نظام عقلي: فهي لا تفسر هذه الظاهرة الجزئية أو تلك فحسب، بل تُفسح المجال أيضا لتصور العالم على أنّه كل واحد وسيع، بدءا من نقطة بعينها.
بالإرتكاز على تعاقب التصورات الثلاثة للعالم يُقال أنّ الإحيائية نفسها، بدون أن تكون بعدُ ديناً، تشتمل على الشروط المسبقة لكل الديانات التي سترى النور لاحقا. ومن الواضح كذلك أنّ الأسطورة تستند إلى عناصر إحيائية، لكن تفاصيل العلاقات القائمة بين الأسطورة والإحيائية لم تُوضح بعد في نقاطها الأساسية.
إنّ الإحيائية، بالمعنى الضيق للكلمة، نظرية التصورات المتصلة بالنفس، وبالمعنى الواسع لهذه أللفظة فهي ” نظرية الكائنات الروحية بصفة عامة “. وهناك أيضا ضرب آخر من الإحيائية يُمكن تمييزه بأنّه مذهب حيوية الطبيعة التي نرى نحن أنّها هامدة لا حياة فيها، وبه يرتبط الإعتقاد بروحية الحيوان وبقوة المانا ( قوى الطبيعة مجسدة ).
إنّ ما أستدعى إبتداع جميع هذه المصطلحات المعرّفة المستفادة بالكيفية الغريبة للغاية التي كانت الشعوب البدائية المعروفة، البائدة أو التي لا تزال موجودة، تتصور بها الطبيعة والعالم. فالعالم يُعمره بحسب هذا التصور عدد غفير من الكائنات الروحية، المضمرة لنية النفع أو الأذى حيال البشر الذين يعزون إلى هذه الأرواح وهؤلاء الجنيين علة كل ما يحدث في الطبيعة ويعتقدون أنّ هذه الكائنات لا تبعث الحياة في الحيوانات والنباتات فحسب، بل كذلك حتى في الاشياء الجامدةالهامدة في الظاهر.
وثمة عنصر ثالث، وربما كان الأهم في ” فلسفة الطبيعة ” هذه، ولكنه لا يسترعي إنتباهنا كثيرا لأنّه مألوف عندنا، على الرغم من أننا نكاد لا نسلم بوجود الأرواح وعلى الرغم من أننا نفسر اليوم السيرورات الطبيعية بعمل قوي فيزيقية غير شخصية. فالبدائيون يؤمنون ب ” إحياء ” من النوع نفسه للكائنات البشرية.
وفي تصورهم أنّ الأشخاص البشريين يحتوون على نفوس تستطيع أن تغادر مقامها لتحل في أشخاص آخرين، وهذه النفوس هي مصادر الأنشطة الروحية، وهي مستقلة إلى حد ما عن ” الأجسام “. وفي الأزمنة الأولى كان الناس يتصورون النفوس مشابهة غاية الشبه للأفراد ولم يٌقيض لها إلا بعد تطور طويل الأمد أن تتجرد من كل عنصر مادي لتكتسب درجة رفيعة جدا من ” الروحنة “.
يميل أكثر الباحثين الى الأفتراض بأنّ تلك التصورات المتصلة بالنفوس تؤلف النواة البدائية للنظام الإحيائي، وبأنّ الأرواح لا تناظر سوى النفوس التي صارت مستقلة، وبأنّ نفوس الحيوانات والنباتات والأشياء تُتصور على أنّها مشابهة للنفوس البشرية.
كيف أمكن لهذه التصورات الثنوية المسرفة التي على أساسها يقوم النظام الإحيائي أن تتشكل لدى البدائيين ؟ من المفترض أنّ ذلك تم على أساس الملاحظات المستخلصة من مراقبة ظاهرات النوم ( والحلم ) والموت المشابه له غاية الشبه، وكذلك في أعقاب الجهود المبذولة لتفسير هذه الظاهرات المألوفة غاية الألفة لدى الفرد.
ولابد أنّ مشكلة الموت هي التي قدمت بصورة رئيسية نقطة الإنطلاق لتلك النظرية. ففي نظر البدائي كان دوام الحياة، أو الخلود شيئا طبيعيا تماما. ولم يتكون تصور الموت إلا في زمن آجل، ولم يقبل به البشر إلا بتردد، أما الدور الذي أمكن أن تلعبه في إنشاء النظريات الإحيائية مشاهدات وتجارب أخرى، ومنها على سبيل المثال تلك التي تتصل بالصور التي تظهر في الأحلام، وبالظلال، وبالصور المنعكسة على المرايا، الخ، فقد دارت حوله مناقشات كثيرة لم تثمر حتى الآن عن نتيجة إيجابية.
وأما أن يكون البدائي أستجاب لتأثير الظاهرات التي فرضت نفسها على تفكيره بتكوين تصوراته تلك عن النفوس، فهذه واقعة وجدها الباحثون طبيعية تماما وأبعد ما تكون عن الألغاز. وقد قال فلهلم فونت في مؤلفه ( ألأسطورة والدين ) بهذا الخصوص أنّ التصورات واحدة عن النفوس تُلتقى لدى الشعوب الأكثر إختلافا وفي العصور الأكثر تنوعا، وإنّ هذه التصورات ” هي الحصيلة السيكولوجية المحتومة للوعي المبدع للأساطير وإنّ الإحيائية البدائية ينبغي أن تُعد تعبيرا روحيا عن الحالة الطبيعية للبشرية، بقدر ما يمكن لهذه الحالة أن تقع تحت ملاحظتنا “.
وكان هيوم قد كتب في مؤلفه (التاريخ الطبيعي للدين) يقول في تبريره إحياء ما لا حياة فيه: ” يُوجد في البشرية ميل عام إلى تصور سائر الكائنات الأخرى على أنّها مشابهة للإنسان وعلى عزو جميع الصفات المألوفة لدى الإنسان والتي هو على وعي باطن بها إلى الاشياء “.
إنّه من الخطأ الإعتقاد بأنّ البشر ما دفعهم إلى إبتداع أنظمتهم الكونية الاولى سوى الفضول النظري وحده والظمأ إلى المعرفة وحده. فالحاجة العملية إلى إخضاع العالم لابد أن تكون لعبت دورا في هذه الجهود. لذا لن يُدهشنا أن نعلم أنّ للنظام الإحيائي لازمة لا تنفصل عنه، وتتمثل على وجه التعيين في نظام من الإرشادات المتعلقة بالكيفية التي ينبغي أن يتصرف بها الإنسان كيما يسيطر على البشر والحيوانات والاشياء.
يرى س . رايناخ في مؤلفه (العبادات والاساطير والديانات) أنّ نظام الإرشادات هذا هو نظام القواعد السلوكية المعروف بأسم ” السحر والرقية ” وهو بمثابة الإستراتجية للإحيائية.
هل نستطيع أن نقيم تمييزا مبدئيا بين الرقية والسحر ؟ أجل، فالرقية تتبدى عندئذ على أنّها في جوهرها فن التأثير على الأرواح، عن طريق معاملتها كما يُعامل الناس في شروط مماثلة، أي بتسكين روعها ومصالحتها وإنتزاع عطفها وترهيبها وتجريدها من قوتها وإخضاعها لإرادة الراقي، وكل ذلك بالوسائل التي ثبت نجعها وفعاليتها في العلاقات مع البشر الأحياء.
لكن السحر شيء مختلف : فهو يضرب صفحا، في الحقيقة عن الأرواح ويعتمد، لا الطريقة السيكولوجية المعتادة بل طرائق خاصة. ومن السهل أن ندرك أنّ السحر يؤلف الجزء الأكثر بدائية وأهمية من التقنية الإحيائية، لأنّه يُدخل في عداد الوسائل المستخدمة للتأثير على الأرواح طرائق سحرية أيضا، فإخافة الروح بالضوضاء والصراخ وسيلة من وسائل الرقية الخالصة، لكن ممارسة الضغط عليه، بالإستحواذ على إسمه تعني إستخدام طريقة سحرية في مواجهته.
ويجد السحر تطبيقه ايضا في الحالات التي لا تكون فيها روحنة الطبيعة قد أُنجزت.
المفروض بالسحر أن يفيد في غايات بالغة التنوع : إخضاع ظاهرات الطبيعة لمشيئة الإنسان، حماية الفرد من الاعداء وألأخطار، وتزويده بالقدرة على إلحاق الأذى بأعدائه. لكن المبدأ الذي يستند إليه الفعل السحري، أو بالاحرى مبدأ السحر من الممكن صوغه صياغة واضحة ودقيقة بالإعتماد على تعريف إ . ب . تايلور وهي :
” أخذ علاقة وهمية بطريق الخطأ محل علاقة فعلية “.
إنّ واحدة من أكثر الطرق السحرية إستخداما لإنزال الأذى بعدو من الأعداء صنع صورته أو تمثاله من مواد شتى. ومن الممكن ايضا ” تقرير ” أنّ هذا الشيء أو ذاك سيمثل صورته. وكل الأذى ألذي ينزل بهذه الصورة يصيب أيضا النموذج المبغوض، ويكفي أن يُتلف جزء ما من الصورة حتى يمرض الجزء المقابل لها في جسم النموذج. وبدلا من إستخدام هذه التقنية السحرية في تلبية مآرب العداوة الخاصة، يُمكن أن توضع في خدمة الورع والتقوى لحماية الآلهة من ألجن والعفاريت الشريريين وكمثال على ذلك نذكر واحدة من أساطير الحضارة المصرية القديمة:
” في كل ليلة، وحينما يؤوب إله الشمس رع إلى مقامه في الغرب المضطرم، يتحتم عليه أن يخوض صراعا مسعورا ضد جيش من العفاريت الذين ينقضون عليه بقيادة آبيبي، عدوه اللدود. كان يصارعهم طيلة الليل، وكثيرا ما تكون قوى الظلام على قدر كافٍ من القوة لتطلق، حتى في أثناء النهار، سحبا داكنة يدلهم لها أديم السماء الأزرق، فتشل رع عن إرسال نوره.
ولمؤازرة الإله كان يُقام الطقس الإحتفالي التالي في معبده في طيبة في كل مطلع شمس: يصنعون من الشمع صورة لعدوه آبيبي، ألذي يُعطونه شكل تمساح قبيح أو شكل ثعبان ذي عقد كثيرة التعداد، ويكتبون بالحبر أسم العفريت فوق الصورة. ثم تُوضع هذه الصورة بعد إحاطتها بشعر أسود في غمد من البردي يُنقش فوقه الأسم نفسه، ثم ييصق الكاهن فوق الغمد ويشطبه بسكين من الصوان ويرمي به أرضا، ثم يدوس عليه بقدمه اليسرى، ويختتم الإحتفال بإحراق الصورة على نار تُقات بالنباتات.
فإذا ما هلك آبيبي، هلك في إثره العفاريت قاطبة. وإحتفال القداس هذا، ألذي تُلقى فيه بعض الخطب، كان يٌقام لا صباحا وظهرا ومساء فحسب، بل كان من الممكن أيضا أن يُكرر في أية ساعة من ساعات اليوم حينما تعصف العاصفة أو حينما يهطل المطر مدرارا أوحينما تحجب وجه السماء سحب سود. كما لو أنّ هذا القصاص أُنزل بهم مباشرة، فكانوا يولون الادبار، ويُعقد إزار النصر من جديد لإله ألشمس “.
إنّ حظر التوراة والحظر الوارد في أحاديث نبي الإسلام محمد بن عبدألله رسم صورة أي كائن حي، لم يُمله تحيز مبدئي ضد الفنون التشكيلية، وأنّما كان هدفه الوحيد صرف الناس عن السحر والشرك ألذي كانت الديانتان العبرية والإسلامية تشجبانهما شجبا شديدا.
الأحاديث النبوية حول تحريم التصوير في الإسلام :
النص الأول: روى البخاري ومسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله”.
النص الثاني: روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن اصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيو ما خلقتم”.
النص الثالث: روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي زُرعة قال: “دخلتُ مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم، فرأى فيها تصاوير وهي تُبنى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عزّ وجلّ: “ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرّة، أو فليخلقوا حبة، أو فليخلقوا شعيرة”.
النص الرابع: روى البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: إني أصوّر هذه الصور فأفْتني فيها، فقال له: ادن مني فدنا، ثم قال: ادن مني فدنا، حتى وضع يده على رأسه وقال: إنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: “كلّ مصوّر في النار، يُجعل له بكل صورة صوّرها نفس فيعذبه في جهنم”.
قال ابن عباس: (فإن كنت لا بدّ فاعلاً فصوّر الشجر، وما لا روح فيه).
النص الخامس: روى الشيخان وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، قالت: فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت يا رسول الله: أتوب إلى الله ورسوله ماذا أذنبت؟ فقال: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسّدها، فقال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة.
النص السادس: روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته).
النص السابع: (روى الستة عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأخذت نمطاً فسترته على الباب، فلما قدم ورأى النمط عرفت الكراهة في وجهه، فجذبه حتى هتكه وقال: «إنّ الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين!!» قالت عائشة: فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفاً، فلم يعب ذلك عليّ).
النص الثامن: روى الشيخان والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعضُ نسائه كنيسةً يقال لها (مارية) وكانت أم سلمة، وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: “أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ، بنوا على قبره مسجداً، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرارُ خلق الله”.
يظهر لنا من النصوص النبوية السابقة، أنّ العلة في تحريم التماثيل والصور، هي (المضاهاة) والمشابهة لخلق الله، كما أن الحكمة أيضاً في تحريم التصوير هي: البعد عن مظاهر الوثنية، وحماية العقيدة من الشرك، وعبادة الأصنام.
وسنتطرق في الأجزاء القادمة من هذه السلسلة إلى تفاصيل السحر في القرآن وألأحاديث النبوية وكذلك إلى أنواع ألسحر مع الأمثلة من واقع الشعوب البدائية.
للبحث صلة
نلتقيكم في مدارات تنويرية أخرى.
مصادر البحث:
– الطوطم والحرام …………. سيجموند فرويد.
– ألغصن الذهبي……………. جيمس جورج فريزر – دراسة في ألسحر وألدين.
– دين الإنسان ……………… فراس السواح.
– الأحاديث النبوية.