19 ديسمبر، 2024 4:26 ص

علي مولود الطالبي … يدخل القلوب بروحه النقية شعرا

علي مولود الطالبي … يدخل القلوب بروحه النقية شعرا

الشعريةُ التي بدأت مع أرسطو عندما وضع مجموعة من القواعد للشعر والمسرح والخطابة ،أراها تتجلى واضحة اليوم في شعرية علي مولود الطالبي …هذا الشاعر الإنسان جدا سليل الوطن والحب والأمل ،يرسم حروفه كما نخيل بلاده ويبكيها كلما ذرفت سماء العراق دما …هو احد المبتسمين في نهار الشعر العربي ؛ينتمي إلى زمن يضج بالإحداث والانفعالات ،نسمع في شعره رنة امرؤ ألقيس وهمسة المتنبي وبكاء ألجواهري وضحكة السياب ..فقد أسرج لنفسه سفينة من كلمات ،أشرعتها أحلام بعيدة ،وزادها دعوات أم في جوف الليل وصلاة أب في زهد التقوى ،فشرع يُقبِل حروفه وسط الموج الشعري المتسامق …بدفة قبطان مخلص لبحاره ،فمرة يصافح الكامل وأخرى يعانق الطويل ،وفي خاتمة الرحلة ،يستريح على الرمل ،تاركا وراءه قطيعا شاسعا من الزبد الحزين ،والنغم الشجِن ،وآيات الجمال ،ومواطن البوح ألرونقي .
من قصائده الممتعة للروح ( قطوف الليل ) التي قال فيها :
وأسهر فيك الليل كالنجم لا يغضي   ***   لأقطف زهر الفلِّ من روضك الغضِّ
فأنتَ  حبيبي حين  تمضي  وكيفما  ***   تكون .. فشوقي نحو منهلكم يمضي
وأنتَ  جمالُ  الأفق يزهو  كغيمةٍ    ***   تفيضُ وهذا الفيضُ يحلو معَ الومضِ
سمائي وأرضي أنت في كل لحظة   ***   وليس سمائي بالسماء ولا أرضي
سأرضى بما ترضى فأنت موجّهي   ***   إليك بما  أهديكِ مني وما يُرضي 
ومن أنت تهواه يرى الحب دينه     ***   ومن دينه حبٌّ تناءى عن البغضِ
وقلبك أنقى ما رأيت وإنــــــــه       ***   لكالثلج في طهرٍ يُصانُ به فرضي
سأزرع في حوض المحبة فلة ً      ***   لعينيك ما أحلى البنفسج في الحوضِ
وأنتَ حبيبي في جميع مراحلي      ***   لَعَمري وحلو العيشِ  في  الصحوِ والغمضِ
 استوقفني تعليقا فيها للناقد والأديب كريم الثوري بعد أن سجلتْ حضورا كبيرا ،قال فيه :
” طيب مادمت قد حصدت كل هذا القدر من التعليقات لِمَ لا تُرشح هذه القصيدة إلى بوابة النقد / اقترح ذلك “
فأردت أن أتجول عوالم الطالبي بعد هذا الاقتراح في هذه القصيدة التي حملت صفات عديدة تؤهلها إلى الخوض في جسدها / بداية من العنوان ( قطوف الليل ) وكأن الشاعر اختار الليل طمعا ببعض الهدوء الذي يجعله يتنفس روحه الشاعرة التي تتزاحم فيها المشاعر الجياشة والعواطف المتقدة ،فهو عَرّف أمره الدائم السهر كما النجم ؛ حقا إن سهر النجوم له مدلولاته التي تفضي إلى أكثر من ركن خيالي يصف لنا حالة الشاعر / سهرهُ لأجلِ غايةٍ في نفسه ، وهي :قطفه الزهور من رياض معشوقه / الذي تلحقه أشواقه أينما حط / لأنه مع كل ومضة يزدهر في قلبه المعجون بتعلقه / ذلكم الغرام الذي لا تسعه الأرض ولا صدر السماوات لأنه لم يجدهُ فيهما ،وهي صرخة عاشق يبحث عن العشق الحقيقي في جسد الكون / ليكون دينه الحب وكي يبتعد عن البغض والحقد ؛ وبهذه اللمحة الإنسانية النابعة بعذوبة نفس الشاعر المؤمنة وخصوبة فكره في تطويع الشعر إلى حقيقته في رسالته الضميرية إلى الشعوب والبشر / داعيا إلى قلوب متيمة بالنقاء وتذوب كالثلج لأجل  من تحب ، وهذه خيالات الشعراء الذين يملكون أحداق تفكر بالأبدية الكونية والحياة الرغيدة لأجل من يحبون / ويختمون بهم حياتهم وكل مراحلهم سواء ناموا أو صحوا فبهم يكون يومهم .
الطالبي استخدم في نصه الشعرية أو ما يسمى بالبويطيقا (Poétique) ،ليكشف لنا عن إمكانيات كبيرة أهلته إلى العبور للضفة الأخرى من النص وهي القلبية التي لامسها بمهارة الغواص الذي اثبت براعة في اصطياد اللؤلؤ الشعري من خلال تقنية النص وإيقاعاته وفلسفته النقية التي تقوم على مفهوم الحب الحقيقي الزاهد في جوهر الوجود ؛ومن خلال بناء معرفي مصرّح به وليس متواريا خلف أكوام الغموض وخمار الإبهام ،بل انطلق من لغة معافاة داركا أن اللغة أسمى أدوات تشكيل أي نص إبداعي ،فبتعد عن الكلمات المبهمة والمتسترة بالرمزية محققا انزياحات طرية شفافة عذبة في سفينة قصيدته ،ليلف حوله أحداق المتلقين والمتذوقين للشعر وعطره ؛بالرغم من انه استخدم قافية صعبة وربما صعبة جدا على الكثير من الشعراء وخاصة على جيل الشباب الذين تجرفهم موجة النثر وإغراء مركبها وتأثير سهولتها التي يتوقعونها …إن تقفية ال ((  الضاد )) قلما يلجأ إليها الشعراء ؛لكنه امتطاها بجمالية منسابة أجاد صوغها وروّضها كما الخيول في يديه المتمكنة بحذق وحبكة لغوية واضحة لمن يقرأ شعر الطالبي الذي امتاز بالركب على متن الشعر بقصائد جزلة جدا ؛إذا تجد نصوصه الأخيرة تحمل قافية ( الزاي ، والطاء ، والشين ، والجيم ، والعين ، وسبقتها الضاد ، ناهيك على القوافي المطروقة ) هذا الأمر يدل على حرص الشاعر أن تكون تجربته مميزة وواضحة الاختلاف ومتفردة عن أبناء جيله من خلال درايته وعرفانه بخبايا النص وتأثيره وأحاطه بالأداء التعبيري والمراوغة الشعرية الفنية .
تتضح قصيدة الطالبي / قطوف الليل / بالمباشرة المقصودة أو ربما المعتمّدة منه في هذا النص ؛إذ إن إمكانيته تؤهله لان يتوارى خلف الرمز لان ما لمسناه من نصوصه في ديوانه الأول ( ضوء الماء ) يوضح لنا إمكانياته ،لكن الغموض هنا لو سيطر على النص سيتحول إلى طلسما وهذا ما سيفقد النص فنيته وجماليته المستساغة في حقل الإبداع المناسب كجدول رقراق ،لقد طل علينا النص بأكثر من ثيمة فنية سواء في المضمون الداخلي أو الخارجي / كما إننا نجده لم يأخذه النفس طويلا ليسهب في قصيدته بل جعلها ثمانية أبيات وهي معرفة منه بان القصيدة إن قلت عن الثمانية أبيات أصبحت أبياتا وليست قصيدة ، لكنه جعلها ثمان مدركا أن الإطالة تدعو إلى الترهل ،حتى وان توقع البعض إنها ربما عجزا لعدم إمكانية الشاعر من الإطالة ؛سترد أبياته عليه إن هذا الجمال لا يمكن له أن يكون عاجزا ،ومن المعلوم أن التكثيف كمصطلح منقول من ميدان علم النفس إلى ميدان علم الاجتماع ،وظيفته إذابة العناصر والمكونات المتناقضة والمتباينة والمتشابهة ،وجعلها كلها في واحد أو بؤرة واحدة تلمع كالبرق الخاطف ،ومتانتها لا بمعنى الاقتصاد اللغوي فحسب ،وإنما في فاعليته المؤثرة في اختزال الموضوع ،لذلك فان التكثيف هنا والتركيز أخذا درجة عالية في إيصال المبتغى للمتلقي عن طريق الإفادة المعرفية المنطلقة من تقنية الإيجاز والابتعاد عن الملل والإسهاب ،بالإضافة إلى شحنه النص بعاطفة تبقى عالقة في الذهن ،يمكن من خلالها أن يخلّد قصيده في ذاكرة الكثير ،فيكون قد بلغ الغاية في الوصول لنفس المتلقي وهي قليلة في الكثير من النصوص ،إذ إن المتتبع للطالبي يرى تيه بوصلته دائما تتجه صوب الروح والقلب ،بإيقاع شجي وتماهي في الروح الوجدانية .
هذه القطعة الفنية التي رسمها الشاعر علي مولود الطالبي على بحر  الطويل الذي لا يغامر في عبابه إلا من تمكن من قيادة شراع الحرف كونه بحر الفحول كما يسميه البعض ،لكنه واضح جليا أن البحر دخل عالم شاعرنا في لحظة لم يكن مخططا لها ،أو قد تكون ملحمية هذا البحر التي لا توجد بغيره من البحور فمد انف قلمه ليصرع لنا هذه القصيدة الأنيقة أو ربما أخذت موسيقى الفراهيدي إذن شاعرنا ليركب متنه وإيقاعه ،وتفعيلة الطويل :
فَعولُنْ مَفاعيلُنْ فعولُنْ مَفاعيلُن * فَعولُنْ مَفاعيلُنْ فَعولُنْ
الذي يعتبر أتم البحور استعمالا فلا يأتي مجزوءا ولا مشطورا ولا منهوكا ،وهو على ثمانية أجزاء فعولن مفاعيلن أربع مرات وله عروض واحدة وثلاثة اضرب .
وقد امتطاه بامتياز وتمكن ،مؤكدا ما قاله الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد عنه ” الطالبي جميل ” يستطع القارئ أن يتحسس روحه من خلال ما تلتقطه أحداقه من لحظات تحفل بالحب والجمال والأمل والطبيعة والإنسانية والدموع والذكريات والأحلام والوجع والشوق ومن قبلهم الوطن وما يعيشه من غربة ؛فيحفر ويبني ويربط ويؤسس ويؤثث عالمه الصوري على ورق جاف إلا من حبره الزئبقي الذي مشى مع السياب وقباني ودرويش والماغوط والكثير من الشعراء المعاصرين ليكون عصيرا لهم في أهداب بوحه على إيقاعات وأحاسيس وصور تُجرَف حتى أنامله معها ،متخذا من اللغة الرشيقة باباً لتنفس كلماته على زوارق الشعر الحقيقي الجميل المكثف الذي يطرقه ويتناوله بالرمز ،والتناص ،والانزياح “اللغوي، والفكري، والموضوعاتي”، والاستعارة ،والمفارقة بأنماطها المتعددة ،وشحن العاطفة ،وجعلها متوترة ومنفعلة الحالة ومركزة الجنوح لمنح القارئ خاصية التشويق والإدهاش ،تلك المرتكزات الأساسية نجدها في طيور مشاعر الطالبي التي تحلق في فضاء الشعر المعبّر بتراكيب شعرية مزدوجة بعيدة عن الضبابية ومتناسقة في ترابطها الصوري البعيد عن القلق والتي تتسم بالرقة والعذوبة والجمال .
أتمنى للشاعر علي مولود للطالبي غدا يحفل بالكثير من التحف الشعرية والأنغام البوحية ومزيدا من الحضور الشعري النهم على الحقل الشعري العراقي والعربي والغزارة بالمنتج والتأكيد على هويته الشعرية التي بدأت تتضح ملامحها على شخصه .

أحدث المقالات

أحدث المقالات