ان أحد اهم مكونات الدولة الناجحة هو وجود منظومة للتعليم العالي، تكون كرأس الحربة في توليد عناصر النهضة الحضارية، لأنها ترسم وجه الامه، وتخلق التنمية المستدامة، كما انها تطور منظومة القيم التي تربط الأفراد في المجتمع بنسق حضاري متقدم. فالمعرفة هي القوة الحيوية التي تفجر التنمية في انساغ المجتمع، وتصبح درعا بوجه الفكر الخرافي والدراما العقائدية فاقدة النصاب، فالعلوم الحديثة اخذت توجه الأجيال نحو الفكر القائم على السببية والموضوعية، والتي تعزز العقلانية وروح المنطق، وبالتالي تخضع مسالك الفكر العام للعقل النقدي والشك المنهجي، حتى ان بعض المتفائلين يرون ان التعليم العالي الناجح يؤكد الانتماء القومي والانتماء الحضاري، لان تواجد المعرفة في عقل الأجيال يطبع المضمون الفلسفي للأمم بالنضج والسمو. يتبلور التعليم الجامعي في أي دوله على أساس تراكمي للمؤسسات والخبيرات السوقية للبناء الأكاديمي في تلك الدولة، سواء في الإطار الاقتصادي او في التنظيم المؤسساتي، وهذه العملية قد تستغرق مئات السنين لتتحقق وينشا نظام وتعليم اكاديمي مرموق، فمثلا” التحول النوعي في صناعة العلوم انتقل ببطيء شديد على مدي القرنين الماضيين من اوربا الى أمريكا بفعل تراكم الثروة والخبرات الكونية في الولايات المتحدة وتدفق العلماء بعد الحربين العالميتين بشكل لم يسبق له مثيل, فتوسعت القاعدة العلمية في امريكا بشكل مذهل وتعزز التعليم الجامعي فيها بأكثر الخبرات الأوربية والشرقية التي نزحت بحثا” عن الفرص الذهبية في العالم الجديد. للعرب تاريخ معتبر في البناء الأكاديمي وانشاء الجامعات رغم انه في هيكله العام موجه للجانب العقائدي أكثر منه في مجال التجريب وعلوم الاستقراء، حيث تعتبر جامعة القيروان اول جامعه منحت القابا” علميه في التاريخ المعاصر بالإضافة الى جامعة القرويين التي تأسست سنة 895م وجامعة الازهر في مصر. في العصر الحديث وعندما كان التعليم الجامعي نخبويا بعد منصف القرن العشرين كانت الجامعات العربية في بغداد وسوريا ومصر تفوق في مقدرتها العلمية جامعات الصين واليابان من حيث التخصص والكفاءة العلمية، ولكن بعد زحف الطبقات الفقيرة تحول التعليم الجامعي الى اليه غير منضبطة في تخريج أجيال اميه في كل شيء، بعد اهمال النوع وتشجيع الكم.
تختلف جودة التعليم الجامعي بين الدول العربية، فالتعليم في دول الخليج العربي ليس نفسه في الدول العربية الأخرى حيث شهدت تحسنا ملحوظا في العقود الأخيرة، حيث يعتمد التعليم بشكل رئيسي على الإمكانات المادية للدول، كما ان وظيفة التعليم تتفاوت بين دوله وأخرى حيث تجد بعض الجامعات العربية لها نشاطات في مجال البحث العلمي وبعضها على اتصال مع الاعلام والمجتمع كما في لبنان ولكن الاغلب محصور في وظيفة التدريس فقط، كما في العراق واغلب الدول العربية. المشاكل التقليدية التي واجهت التعليم الجامعي في الدول العربية في بداية القرن العشرين لازالت تفعل فعلها وتنخر في اركان الأصالة العلمية وسمعة التعليم العالي في الدول العربية، بل تحولت الى عقد كأداء لا مجال للخلاص منها، اهمها طغيان الطابع النظري التلقيني في المناهج التعليمية وعدم استخدام النظريات الحديثة في التدريس، بل لازالت الطرق التعليمية بدائية جدا من حيث تكدس المناهج وعدم مواكبة مستجدات المعرفة العلمية للدول المتقدمة، مما ادى الى عدم الاستفادة من المحتوى العلمي للمعرفة الجامعية, بالإضافة الى ذلك هناك مشاكل لامجال لحلها الا ضمن منظومة التنمية الشاملة للدولة، كانعدام فرص العمل بعد التخرج، واستخدام العنف في المدارس، وعدم وجود المكتبات , والتزوير والانتحال, و توفر مختبرات البحث العلمي ومراكز البحوث التي ترفد الطلبة بمصادر المعرفة. ولكن أصعب العوامل التي اعيت معظم المتخصصين في مجال التعليم هو عدم توفر الكوادر الكفؤة في تطبيق استراتيجيات التعليم الجامعي في الدول العربية.تحولت بعض الدول العربية بسبب نظامها التعليمي الى اقطاعات او ولايات تابعه لاوربا او الولايات المتحدة الأمريكية، فبسبب وفرة المال استقدمت بعض الدول العربية كوادر تدريسيه اجنبيه محترفه لبناء مؤسسات التعليم العالي فيها, واستخدمت أيضا الأنظمة التربوية الأوربية والأمريكية، بحيث تعرض الطالب الجامعي الطموح الى عملية غسل مخ منظمه تحت مرأى الجميع فاصبح غريبا” في ثقافته وسلوكه وتفضيلاته المعرفية والأخلاقية وهو في بلده، فانفصل ذهنيا تحت راية الحداثة والتجديد عن العمق التاريخي والامتداد الطبيعي لنمو الشخصية المؤمنة بقيمها وتراثها وتمسكها بالولاء والوطنية. هروب وتلاشي الطبقة البرجوازية في اغلب الدول العربية أدى الى تراجع التصنيع والإنتاج, وبالتالي تراجع التمويل والاستثمار في مراكز الأبحاث في الجامعات حتى وصل الى الصفر تقريبا, يتزامن هذا التراجع مع تأكل مشروع النهضة في بناء الدولة وبروز مشاريع السلطة في بعض الدول العربية وهذا بدوره افقد المسؤولين الإحساس الوطني في تكامل بناء الدولة بشكل حضاري, لان الهاجس الامني هو في السيطرة على الافراد والذي لا يحتاج الى نشر الوعي الاكاديمي بشكل متطور, بل العكس هو الاصلح, وهذا ما فعلته معظم القيادات العربية التي كانت تجفل من ظهور مفكر او اكاديمي بارز في الدولة, لان الجهد الأكبر موجه في تكميم الافواه, وتسطيح الوعي, وقيادة الافراد كالخراف الضالة. تنفق الدول العربية ما نسبته 6% الى 8% من الدخل القومي على التعليم بشكل عام، يخصص القسم الأكبر من هذه النسبة الى التعليم الاولي والثانوي ومعظمه يُستنفذ في الرواتب، ويخصص في المتوسط ما نسبته 1% الى 2% للتعليم الجامعي، بالإضافة الى ذلك ورغم اختلاف نسبة حصة الفرد من الدخل القومي بين الدول العربية الا انها بشكل عام تساوي 95% في الدول الأكثر انفاقا” على التعليم, ففي الأردن مثلا” يبلغ حصة الفرد فيه(4500$) من الدخل القومي , وهذأ رقم جيد قياسا بالدول المحيطة , و 37% في الامارات والتي يبلغ حصة الفرد فيها من الدخل القومي (9500$), اما الدول العربية الفقيرة فهذه النسب تتضاءل كثيرا” الى درجه محزنه بحيث لا يتعدى معدل الانفاق على الطالب الجامعي 500 $ سنويا, نتيجة انخفاض الدخل القومي بشكل عام, بينما ميزانية الجامعات الأجنبية كهارفارد مثلا تعادل ميزانيات 15 دوله عربيه معا” حيث تبلغ 35 مليار دولار وستانفورد 17 مليار, وجامعة برين ستون 12 مليار. ومن الحقائق التي تبعث على الحزن والخوف والتي تنشرها مجلات ودوريات متخصصة، إن عدد براءات الاختراع في الدول العربية في اخر ثلاثون عاما هي 836 فقط، بينما إسرائيل وحدها سجلت 16800 براءة اختراع. كما ان الدول العربية خاصة مصر، وسوريا والعراق والأردن تتقدم جميع دول العالم في هجرة العقول العلمية الى شتى اقطار الأرض، كما ان هذه الدول العربية تتفرد بانها أكثر الدول التي فيها نسبة بطالة الأكاديميين عالية جدا. كما أن تقارير الأمم المتحدة تؤكد ان الدول العربية هي أكبر بؤرة للامية في العالم حيث تشكل الأميه ما نسبته 30% من عدد السكان. بالإضافة الى ذلك فان التصنيف العالمي لاهم 500 جامعه في العالم يخلو من اسم أي جامعه عربيه على مدار العقود الماضية الا في التقرير الأخير حيث تم ادراج اسم جامعه عربيه اشك في ان كفاءتها العلمية فقط من وضعت اسمها في هذا التقييم. التعليم العالي مكون من عناصر عديده وليس كتله واحده ليتم التركيز على تطويرها، فهو مكون من التدريب والبحث العلمي، والابتكار، والتخطيط الاستراتيجي وغيرها، وبالتالي فان العمل على تطوير حلقه او أكثر ربما يكسر حاجز الياس الذي ينتاب كوادر الإصلاح والتقويم، ولكنه لا يكفي لبناء المنظومة الناجحة، وهذا يعود بنا الى أن التعليم منظومه كامله فلا يمكن تطوير الابتكار بدون تطوير القاعدة العلمية التي تنتجه. العرب لا ينقصهم المال ولا ينقصهم العقل الذي اثبت ذاته في العلوم قبل مئات السنين، ولكن ينقصهم القرار السياسي الحكيم الذي يعتمد قبل اصدراه على دراسة الجدوى، وان لا يكون سياسيا، مرحليا، وان يكون القرار خاليا” من مرارة الأيدلوجيا، وينقصهم أيضا” منح الحرية للجامعات بالتصرف لأنهم كاكاديميين يعرفون ما يصلح للتعليم ومالا يصلح بدون تدخل مخالب السياسي. كما ان للمنهج التربوي إثر هائل في تبرير فلسفة التدريس من خلال ترتيب الأولويات، وابتكار طرق جديده للتمويل وتنشيط الاستثمار في التعليم، او عن طريق خصخصة التعليم في بعض مراحله. وتبقى الحلول خلف نظارة الباحث ان منحوه سلطة السياسي، لان جميع مشاكل الكون لها حلول ان أدرك القائمون أن آن الاون لوضع الحلول