23 نوفمبر، 2024 5:17 ص
Search
Close this search box.

العلمانية: بين النموذجين الفرنسي والأمريكي

العلمانية: بين النموذجين الفرنسي والأمريكي

الجزء الأول
يكثر الحديث اليوم عن العلمانية بين الأوساط السياسية والثقافية، وخاصة ضمن فترة الحراك المدني القائم الذي يدعو الى الإصلاح أو الى تغيير معالم العملية السياسية؛ ويعلو الحديث عنها في الأوساط الشعبية التي عاشت عهد تولي الأحزاب الإسلامية والسلطة في العديد من دول وشعوب المنطقة. فسوء التجارب السياسية منذ تولي الاسلاميين الحكم هي التي أدت الى نزعة النفور والابتعاد عن الدين وتعالت الدعوة العلنية الى العلمانية. وبهذه أصبح مبدأ العلمانية هو الشعار الذي تجتمع حوله كل القوى السياسية، من التي تدعو الى تطبيقه أو من التي تحاربه على أنه مبدأ يناهض الدين، وما الدين إلا هو أساس قيام أمة الإسلام وقاعدة بزوغ حضارتها والرابط الذي يجمع أبنائها، فكيف يمكن للمسلمين أن يتبعوا فكرة تناهض أساس كينونّته الإجتماعية والفكرية والعقيدية. فالعلمانية على هذا الأساس مبدأ يناقض الدين، وعلى المؤمنون رفض هذه الفكرة المعادية لعقيدتهم.
ولكن يمكنني القول أن العلمانية بجذورها الفكرية ليست معارضة للدين أو مناقضة له. فهو مبدأ بزغ في العصر الحديث في المجتمعات الأوربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لظروف موضوعية إجتماعية سياسية نابعة من الصراع الديني بين المذاهب المسيحية (الكاثوليكية والبروتستانتية، بالاضافة الى الأرثودوكسية والكنيسة الأرمنية) في القرن الـ 17 الميلادي والذي كان كل واحد منهم يدَّعي بأن الحق معه. وتدخلت الحكومات ورجال السلطة آنذاك في تأجيج هذه الصراع لمصالحهم وتمتين حكمهم وإدامت سيطرتهم على المجتمعات (وكأننه حالة مشابه لما هو عندنا اليوم من الصراع الدموي بين المذاهب المتقاتلة والتي تؤجج نيراها السياسة). الثورة الفرنسية جاءت لتنهي هذا الصراع الديني وتنقله الى خلفيته السياسية، فالصراعات بين الدول الأوربية أصبح ما بعد الثورة الفرنسية أساسه سياسياً بحتاً. أما التجربة الأمريكية فظروف نشوبها يكاد يكون مختلف تماماً عن الفرنسية. فكانت الثورة الأمريكية حرب تحرير من (الإستعمار) البريطاني، وسكانها الأوربيون الأوائل كانوا من المهاجرين ويعتنقون مذاهب مختلفة، وقدموا الى القارة
الامريكية من أجل طلب العيش والفرار من الصراع الديني-المذهبي الدائر في القارة الأوربية آنذاك. وعليه فالتجربة الامريكية حول العلمانية مختلفة بظروفها الموضوعية عن التجربة الأوربية.
ما قبل الثورة الفرنسية عام 1789، كان المذهب الرسمي للدولة هو الكاثوليكية بمرجعيتها المتمثلة بالبابا القابع في فاتيكان روما، وكان هنالك نظام تاريخي متشابك بين الكنيسة والنظام السياسي في فرنسا. أدت الثورة إلى إستحداث تغييرات في تركيبة الدولة وإنفصام العرى الوثقى التي تربط الكنيسة بالنظام السياسي. ففي فترة وجيزة إنفصم هذا العقد بين الكنيسة والدولة، وحدد نابليون طبيعة تلك العلاقة بين الجمهورية الفرنسية الجديدة والكنيسة الكاثوليكية، ورسم من خلالها معالم إرتباط جديدة بين الدولة والبابوية. وصدرت أوائل عهد الثورة وثيقة هامة، (حقوق الإنسان والمواطن)، والتي تشير المادة العاشرة فيها إلى أنه “لا يجوز التعرض لأحد لما يبديه من الأفكار حتى في المسائل الدينية على شرط أن تكون هذه الأفكار غير مخلة بالأمن العام.”
ولكن العلمانية الفرنسية تطورت بمرور الزمن وتقادم الظروف السياسية المضطربة التي مرت بها فرنسا، فأصبحت تنحى نحو فكرة سيطرة الدولة على الكنيسة والمعتقدات الدينية معتمدين على مبدأ أن لا تكون تلك المعتقدات مخلة بالأمن الوطني. فجرى تشريع القانون الفرنسي 1905 الذي ينص على الفصل بين الكنائس والدولة، ولكن بطريقة أن تكون مُلكِيّة هذه الكنائس للحكومات المحلية (بمعنى إخراجها عن سيطرة مرجعية الفاتيكان وإشراف البابا). وبعد رفض الفاتيكان لهذا الإجراءات وعدم اعترافه بكل الجمعيات الدينية التي أنشأها القانون الفرنسي والتي أعطيت لها الحق بإدارة الكنائس، توصلت الدولة الفرنسية فيما بعد الى إتفاق مع الفاتيكان في عام 1926 يجري فيها ترشيح الأساقفة في فرنسا من قبل الفاتيكان بالإتفاق مع وزارتي الداخلية والخارجية الفرنسية.
فنحت العلمانية الفرنسية الى جانب يبدو معادياً للكنيسة، وجاهدت الكنيسة الكاثوليكية ضد هذا التحول الخطير الذي يحد من تأثيرها الإجتماعي ويجمد سيطرتها على مواردها الاقتصادية من خلال الإستيلاء على أملاكها ودور عبادتها وأصولها المالية. أضفى هذا الصراع الديني السياسي بين الطرفين ظلاله على كل التوجهات العلمانية في العالم المسيحي، بين الدول التي إعتمدت المنهج الفرنسي للعلمانية بين مرجعية الفاتيكان المعارضة. فنشأت، في بلدان أميركا اللاتينية مثلاً، بين نهاية القرن الـ 18 وبداية القرن الـ 19 الى إنفصام جديد بين الكنيسية الكاثوليكية والحركات العلمانية حيث أعتبرت الفاتيكان كل تحرك علماني إنما هو معادي للدين.
ولكن تطبيق العلمانية في الشرق كان أكثر تطرفاً من تطبيقها في أوربا، كما حدث مثلاً في تركيا وإيران والهند في النصف الأول من القرن العشرين. فالتجربة التركية جاءت إنعكاساً للتجربة الفرنسية ولكن بأقصى حالات تطرفها والتي يتداخل فيها النشاط الحكومي بالمجال الديني، ليس منحصراً في ملكية الدولة للجوامع وأماكن العبادة فحسب، ولكن تجاوز الى درجة التدخل الحكومي في تحديد مضمون خطب صلاة الجمعة، وأشترطت على جميع الإئمة في تلك المساجد الحصول على موافقة الدولة في الخطب التي يلقونها للمصليين، وألغت حتى تلاوة الأذان أو قراءة القرآن بغير اللغة التركية ضمن ترجمة رسمية أقرتها الدولة. فالمساجد السنية المستقلة غير قانونية، لأن جميع مراكز العبادة السنية تابعة للدولة. أما الأقليات الدينية، مثل الأرمن أو اليونانية الأرثوذكسية، والتي كفل الدستور حرية الإعتقاد بها، ولكن هذا الضمان لم يمنح لأي من الطوائف الدينية الأخرى بما فيها الإسلامية. فالعلمانية التركية جعلت الدولة هي التي ترسم المعالم الدينية للمجتمع، وهي التي تحدد التوجه العام للفكر العقيدي-الديني للمواطن. وكأن هذا التطرف في عهد جمهورية كمال أتاتورك كان ردة فعل لإرث الدولة العثمانية التي كانت تمثل قيادة العالم السني وتفرض مذهب معين (الحنفي) على أنه دين الدولة الرسمي. فلم تكن التجربة “الكمالية” مقتصرة على فصل الدين عن الدولة، وإنما كانت بسيطرة الدولة على النشاط الديني، ولكن بإتجاه تحجيمه وإبعاده عن دوره العقيدي وتأثيره الإجتماعي. فهنالك سيطرة تامة للدولة على الحياة الدينية للمجتمع مشابهة لما كانت في العهد العثماني، ولكن طبيعة العلاقة مغايرة بطريقة سلبية. ومن المفارقات أن فوز حزب العدالة والتنمية على الحكم أعطت العلمانية “الكمالية” سلطات واسعة للإسلاميين في السيطرة والتحكم على جميع دور العبادة، ولا يسمح حتى لبقية القوى الدينية (كما نلاحظة الآن في الحملة ضد حركة أوغلان) القيام بالنشاط الديني مع أنه هذه الحركات تنتمي الى الفكر العقيدي السني نفسه. فالعلمانية هنالك هي طريق بإتجاه واحد، وهو تدخل الحكومة في الشأن الديني، وليس العكس.
وهذا التوجه الشرقي في التطرف العلماني (أو بالاحرى يمكن وصفه بسيطرة الدولة على الشأن الديني للمواطن) مشابه لما حدث في التجربة البهلوية في إيران والذي كان ردة فعل للحكم الصفوي-القاجاري. فكان التطبيق العلماني هو سيطرة شمولية للدولة على الدين، ومحاولة تحجيم هذه العلاقة الى أقل درجة ممكنة لأنهاء معالم تلك العهود التركية للصفوية-القاجارية والتي إرتبط وجودها بالتخلف الحضاري والضعف السياسي التي جعلت من تلك الدول عرضة للقوى الإستعمارية الغربية الأوربية. ولكن أنقلب السحر على الساحر وأنفجرت الثورة الإيرانية والتي أسست لنظام الجمهورية الإسلامية بقيادة رجال الدين وبزعامة ولي الفقيه، فجمعت الدولة والدين في بوتقة واحدة.
قد كانت (العلمانية) سيف ذو حدين، فما روجت له الحركات السياسية الإسلامية (والتي تدعو الى تَحكَّم الدين في جيمع شؤون الحياة) بأن العلمانية هي الشر المحض وإنها النقيض للإسلام، أضحت فيما بعد الطريق القويم لتحكَّم الدين بالفعل على شؤون حياة الإنسان كلها جميعاً. فما صرح به محمد إقبال، مؤسس دولة باكستان الإسلامية، بأن العلمانية هي أكبر خطأ فعلته أوروبا من خلال الفصل بين الكنيسة والدولة، لأنه قد قاد إلى “المادية الإلحادية،” ولكن الواقع في بعض بلاد المسلمين إنما قادت العلمانية الى سيطرة الدين على الدولة. فنشوء الدولة الشمولية في أغلب دول المسلمين – ملكية كانت أم جمهورية- إنما أعطت للحركات السياسية الإسلامية عندما تسنمت زمام الحكم الصلاحيات الكبرى والواسعة في السيطرة على شؤون الحياة وتوجيهها بما تشاء. وكان هذا جلياً واضحاً عند تولي الأحزاب الإسلامية ما قبل الربيع العربي وما بعده لشؤون الحكم في عدة دول. وإنعكاس الدولة الشمولية واضح عندنا في العراق أيضاً. فنرى أن الدولة بحوزتها مُلكية أغلب دور العبادة والمساجد، وهنالك هيئات حكومية للأوقاف يترأسها رجال دين بمناصب رجال سياسة تسيطر على شؤون تلك المراكز الدينية وتتحكم بها وتمولها وتجني مواردها. كما واستحدثت في العراق الجديد هيئة الحج والعمرة على غرار ما موجود في الجمهورية الاسلامية الايرانية لتتابع شؤون مناسك الحج والعمرة العبادية ويتولى شؤونها رجل دين تعينه الدولة بالتشاور مع المرجعية. فكأن الشعائر العبادية أصبحت مقننة رسمياً وتدار من قبل جهاز حكومي بمستوى وزارة.
في الجزء الثاني سوف نتناول الإنموذج الامريكي للعلمانية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات