الخريطة السياسية العراقية متغيّرة مثل كثبان رملية، وتظهر بين الحين والآخر مفارقات سريعة في المشهد السياسي العراقي، لا يستطيع المراقب ملاحقتها أو التوقف عندها، فغالباً ما تتبعها تغييرات واصطفافات جديدة في المواقف، لدرجة الانقلاب على المواقف التي قبلها. وإذا كانت السياسة بطبيعتها متغيّرة وغير مستقرة، ولا بدّ للسياسي أن يأخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات ويتعامل مع الواقع كجزء من «فن الممكن»، فإن مثل هذا الشيء ينطبق على الوضع العراقي أكثر من غيره، لا سيما بعد الاحتلال، حيث تقام ائتلافات وتنفصم عرى اتفاقات وتتغير المواقف بين عشية وضحاها بنسبة 180 درجة.
لقد ساد اعتقاد لعقود من الزمان أن الحكومة المركزية تقوم بتجميع المسؤوليات بيد السلطة التنفيذية حيث يتم التغوّل على السلطات الأخرى، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى الدكتاتورية، ولعل الحكومات العراقية السابقة منذ ثورة 14 تموز (يوليو) ولغاية وقوع العراق تحت الاحتلال في العام 2003 تمثل نموذجاً لها، لا سيما في فترة حكم حزب البعث، التي قاربت 35 عاماً، وخصوصاً في فترتها الثانية حين أصبح صدام حسين «الزعيم» بلا منازع منذ العام 1979، ولذلك تولّد شعور عام ضد الدولة المركزية، لأن نموذجها السائد هو النموذج الدكتاتوري الاستبدادي.
وواجه مثل هذا الاعتقاد الخاطئ، اعتقاد آخر لا يقلّ خطأً، مفاده أن اللامركزية، ولا سيما النموذج الفيدرالي، ستؤدي الى التقسيم والانفصال، خصوصاً أن ثقافة الدولة المركزية الشمولية هي السائدة. ومثل هذا الاعتقاد كان يُثار بوجه الكرد ومعهم قوى يسارية حيث كانوا يطالبون بالحكم الذاتي وفي ما بعد بالفيدرالية. وكانت مثل تلك المطالبات أقرب إلى المحرّمات التي تصل إلى حد الخيانة، قبل اتفاقية (بيان 11 آذار/مارس) العام 1970 بين الحركة الكردية بزعامة الملا مصطفى البارزاني والحكومة العراقية برئاسة أحمد حسن البكر، لكن الأمور تغيّرت تدريجياً وأخذت الكثير من الأوساط تقتنع بحقوق الكرد وتقرّ لهم بصيغة الحكم الذاتي ولاحقاً وربما على مضض في إطار المعارضة العراقية بحق تقرير المصير وبنوع من الفيدرالية، أطلق عليها «نظام الولايات» رديفاً لها، وهو ما تمت محاكاته من التاريخ الاسلامي لإرضاء أوساط إسلامية بفكرة الفيدرالية.
لكن الاعتقاد الأول مثلما هو الاعتقاد الثاني بشأن مركزية أو لامركزية الدولة، طرأ عليه الكثير من التغييرات بل الانقلابات، مثلما حصل في الخريطة السياسية للقوى والأحزاب العراقية، لا سيما بعد الاحتلال الأميركي، وربما ليس بعيداً عنه، خصوصاً صيغة الدستور المؤقت «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية» التي أُقرّت في آذار (مارس) 2004 والتي قيل إن نوح فيلدمان أعدّ مسوّدتها الأولى، وهو يهودي داعم لإسرائيل، وقد حصل ذلك في ظرف اتسم بالخوف وعدم الثقة، وهو ما تم نقله إلى أجواء إعداد الدستور الدائم، الذي استند في غالبية مواده، لا سيما ذات الطبيعة العقدية والإشكالية، الى قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وهكذا سُلقت على عجل، مسألة إنجاز مسوّدة الدستور من لجنة موسعة، وعلى الرغم من التحفظات التي أبدتها بعض الكتل على موضوع الفيدراليات وعلى مواد أخرى في الدستور، حيث تم الاتفاق على تعديلها، إلا أنها صوّتت في نهاية المطاف لمصلحته عند عرضه للاستفتاء العام في 15 آب (أغسطس) 2005، ثم أجريت انتخابات على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه.
وكان من المفترض أن تتم التعديلات خلال فترة أربعة أشهر من تاريخ انعقاد أول جلسة للبرلمان، لكن ذلك لم يحدث وانتهت اللجنة التي تم تشكيلها إلى طريق مسدود وتركت الأمور للقوائم السياسية، التي لم تتفق على شيء، بل أن نحو 50 مادة دستورية ذيّلت: «على أن تنظم بقانون»، وذلك لتصبح نافذة، لكن الأمر لم يحصل وظلّت الغالبية الساحقة من هذه المواد مثل التعديلات غير منجزة، وكلا الأمرين يحتاج إلى عمل مضنٍ بسبب التباعد بين القوى السياسية وتدهور الوضع الأمني من جهة، وتنامي عوامل الشك والحذر والخوف، لا سيما عشية الانسحاب الأميركي من العراق من جهة أخرى.
لعل تبدّلات كبيرة وخطيرة قد حصلت في المشهد السياسي العراقي، فالقوى التي رفضت الدستور ولم تصوّت عليه أو صوتت ضمن «صفقة سياسية لم تكتمل» بسبب تضمّنه موضوع الفيدرالية، أصبحت هي اليوم أكثر حماسة له، لا سيما أن بعضها هو الذي تبنّى مطلب الفيدرالية التي لم يجد لها من بدٍّ أو بضعة تبريرات أو لم يعارضها على أقل تقدير.
ومن المفارقة أن مطلب الفيدرالية الذي كان مدنساً في السابق في محافظات صلاح الدين والأنبار والموصل وإلى حدود معينة في ديالى، أصبح «مقبولاً»، ولا سيما بعد تأويلات وتفسيرات وتبريرات مختلفة له على الرغم من وجود معارضة شديدة ضده في هذه المحافظات وفي أوساط شعبية واسعة، باستثناء إقليم كردستان الذي كان رأيه من البداية تشجيع قيام أقاليم، وكان موقفه خلال الدورة السابقة للبرلمان، تأييد سن قانون خاص بالأقاليم الذي صوّت عليه البرلمان (طبقاً للدستور) لكن تم تجميده إلى 18 شهراً، ثم طواه النسيان بسبب المواقف المتعارضة بشأنه.
المفارقة الأخرى أن أكثر من ثلثي الناخبين في محافظتي صلاح الدين والأنبار صوّتوا ضد الدستور (لأنه نصّ على الفيدرالية)، وكان من المفترض أن يسقط الدستور لو صوّتت محافظة الموصل بأكثر من ثلثي الناخبين ضده، وكاد الأمر أن يحصل بفارق بسيط، وربما بتداخلات أدّت إلى تغيير المسار حيث كان يمكن لثلاث محافظات أن تبطل مفعول الدستور فيما إذا عارضه ثلثا الناخبين في تلك المحافظات.
الوجه الآخر لهذه المفارقة هو أن الذين كانوا يتحمسون للدستور وللفيدرالية، وخصوصاً المجلس الاسلامي الأعلى وحزب الدعوة وغيرهما، بدوا وكأنهم استبدلوا مواقعهم مع جبهة التوافق والحزب الاسلامي وأطراف مهمة من القائمة العراقية لاحقاً، بحيث انتقل هؤلاء من مواقع المؤيدين إلى مواقع المعارضين لتطبيق النظام الفيدرالي أو قانون الأقاليم خارج نطاق إقليم كردستان، بحجة أن الظرف غير موات وأن إقليم صلاح الدين سيتحول الى ملاذ للبعثيين المخلوعين والمحرّم عليهم العمل السياسي بموجب قانون الاجتثاث. وهكذا تم استبدال المواقع، فقد انتقل المعارضون أو المتحفظون على مشروع الفيدراليات، إلى متحمسين أو دعاة، أو من يجد المبررات والذرائع، والعكس صحيح أيضاً.
إن تغييراً جوهرياً حصل في الخريطة السياسية العراقية، بحيث أصبح بعض دعاة اللامركزية أشد مركزية من مروجيها، أما من كان يتمسك بالنظام المركزي، فقد بدا أكثر رغبة في حكم لامركزي فيدرالي، وهو القرار الذي اتخذه مجلس محافظة صلاح الدين الرافض للفيدرالية سابقاً، والمرفوض حالياً من جانب المالكي والائتلاف الشيعي المؤيد سابقاً للفيدرالية، والرافض لها حالياً والمتمسك بخيار حكومة مركزية قوية، ومثل هذا الموقف سبق لرئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي أن اتخذه بخصوص دعوته الى الخيار الفيدرالي للسنّة الذين يشعرون بالتهميش والإقصاء، فيما إذا استمر الوضع كما هو، في حين أن الذي روّج للخيار الفيدرالي سابقاً والذي سمّي بالأقاليم هو المجلس الاسلامي الأعلى ورئيسه السيد عبد العزيز الحكيم، الأمر الذي يعني أن كثباناً رملية كبيرة يمكن أن تتحرك لتغيّر الخريطة السياسية العراقية.
لقد كانت مبررات المحافظات المذكورة برفض الفيدرالية، إضافة إلى أوساط سياسية من خارج العملية السياسية وداخلها، أن الفيدرالية تؤدي إلى تقسيم البلاد تمهيداً لانفصالها، لا سيما بعد مشروع جو بايدن الذي أصبح نائباً للرئيس الأميركي، حين اقترح في العام 2007 تقسيم العراق إلى 3 مناطق: كردية وسنية وشيعية ووضع نقاط تفتيش وإصدار هويات للأقاليم أقرب إلى جوازات سفر، أو يمكن أن تكون كذلك لاحقاً، لا سيما بوجود قوات عسكرية محلية في الفيدراليات الثلاث لتنظيم وحماية حدود هذه الأقاليم، التي هي في الواقع العملي ليست سوى المرحلة ما قبل النهاية للانفصال. ولعل بعضهم أبدى تخوّفاً من زيارة بايدن إلى بغداد لاحتمال ارتباطها بهذا المشروع، على الرغم من أن واشنطن حسبما يبدو ليست في وارد الغوص فيه بعد الانسحاب.
ومن المفارقات أن بعض القوى الرافضة سابقاً للفيدرالية كانت تتهمها صراحة باعتبارها جزءًا من مشروع صهيوني وامبريالي، لتفتيت البلدان العربية وتحويلها إلى كانتونات أو دوقيات، بتجزئة المجزأ، لكن بعضه أخذ يبحث في المبررات المذهبية وغير المذهبية لتبرير مطالبته بالفيدرالية، لا سيما في ظل سياسات الإقصاء والتهميش كما يقول، ناهيكم عن أنه تبنّى حجج معارضيه بشأن أن الفيدرالية هي مدعاة للوحدة وتوزيع الصلاحيات وتنظيم العلاقة بين السلطات، وهي المبررات التي كانت حججاً لخصومه، دون البحث جدّياً في مآلها القانوني والسياسي في إطار الوحدة الوطنية، التي يمكن أن تزداد لحمة أو تتشظى بحسب أجواء الثقة والتوافق.
المثير في الأمر هو اتهام مجلس محافظة صلاح الدين أو المطالبين بالفيدرالية لشعورهم بالتهميش والتمييز وثقل أعباء الحكومة الاتحادية، بالانفصالية، وأن طلبهم هذا غير مشروع توقيتاً وهدفاً، لا سيما انه يأتي عشية الانسحاب الأميركي من العراق ولحماية البعثيين، في حين أن النص الدستوري يفترض أن يعرض رئيس الوزراء طلب مجلس المحافظة على البرلمان العراقي، وفي ما بعد يتم إجراء استفتاء، لا سيما أن المادة 119 من الدستور منحت الحق لكل محافظة أن تصبح إقليمياً بطلب من ثلثي الأعضاء في كل مجالس المحافظات أو بطلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تريد تكوين إقليم. هكذا تبدو الفيدرالية العراقية كثباناً رملية متحرّكة لا تعرف حدودها!
* جريدة السفير اللبنانية