يعتبر الملا علي كه رمافي من الشخصيات الدينية والاجتماعية التي لعبت دوراً مهماً في العقدين الاخيرين من القرن العشرين على صعيد منطقة بهدينان عامة ودهوك خاصة، فبصماته واضحة على رواد المساجد التي خطب ووعض فيها، فضلاً عن العشرات من طلابه الذين تخرجوا على يديه في المدرسة المسجدية الوحيدة في منطقة بهدينان التي أسسها في مسجده( مسجد كرى باصى)، وأعادت الى الاذهان المدارس المسجدية التي نبغ منها علماء الكرد وكانت لهم اسهاماتهم الواضحة في الحركات الكردية الثورية في القرنين التاسع عشر والعشرين للدفاع عن حقوقهم المهدورة.
ولد الملا علي ملا نبي في قرية گه رمافا سعيد آغا الواقعة شمالي مدينة دهوك في سنة1935م من أسرة دينية مشهورة في المنطقة، درس الصف الاول الابتدائي في مدرسة قرية بِيرومرا المجاورة لقريته، بعدها غادر الى مدينة دهوك لتكملة دراسته الابتدائية في نفس المدرسة التي انتقلت الى دهوك بسبب قيام ثورة ايلول 1961م، وقصف الطائرات العراقية لقرية بيرومرا كان للملا علي منذ نعومة أظفاره تعلق شديد بأهداب الدين، لذا ما أن وصل الصف الخامس الابتدائي حتى تاقت نفسه الى تكملة دراسته في المدارس الملحقة بالمساجد، فدرس فترة من الزمن في مدرسة مسجد الريكان في دهوك، بعدها أدى أمتحان المادة المؤقتة وتم قبوله في الصف الثالث المتوسط في المعهد الاسلامي في دهوك، حيث أكمل دراسته في العام الدراسي 1974-1975م.
وكان المرحوم بأذنه تعالى قد درس على يد بعض علماء بهدينان، من أبرزهم: ملا صالح بابوخكي دوسكي(= إمام جامع الريكان في دهوك) المتوفى
سنة1974م، ووالده الملا نبي كه رمافى(= إمام جامع كرى باصى) المتوفى سنة 1977م، والملا درويش مه تيني(= المعلم في مدرسة بهدينان الحكومية) المتوفى سنة 1978م، والشيخ عبيدالله بروشكي(= المدرس في المعهد الاسلامي) المتوفى سنة1984م، والملا عبد المجيد سوراني(= إمام الجامع الكبير في دهوك) المتوفى سنة 1985م، والملا علي بروشكي دوسكي(= مدير المعهد الاسلامي) المتوفى سنة1985م، والملا أحمد إكمالي دوسكي المتوفى سنة1991م، والملا عبدالهادي المفتي(= إمام جامع الحاج مصطفى في دهوك) المتوفى سنة1993م، وملا اسماعيل نافشكي دوسكي(= إمام الجامع الكبير في دهوك) المتوفى سنة1996م، والملا حسين يونس خالد ماريونسي( مدير المعهد الاسلامي في دهوك لسنوات طويلة) متع الله بعمره، وغيرهم كثيرين.
بعدها تم قبوله في الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورةسنة1975-1976م، حيث تخرج فيها وحصل على شهادة البكالوريوس من كلية الشريعة والدراسات الاسلامية بتفوق في عام 1979-1980م.
بعد رجوعه الى أرض الوطن تم تعيينه أماماً وخطيباً في مسجد مالطا اسلام في دهوك، ثم انتقل الى مسجد كرى باصى في بدية ثمانينات القرن العشرين بعد احالة امامه على التقاعد، وباشر من ذلك الوقت بالقاء الخطب والمواعظ التي تحمل طابعاً سياسياً واجتماعياً ينتقد فيها النظام البعثي الذي آل على نفسه محاربة الحركة الكردية.
وبعد انتفاضة آذار عام1991م كان للملا علي دور فاعل في إتحاد علماء الدين الاسلامي، وأصبح في منتصف تسعينيات القرن العشرين مسؤولاً للجنة محلية دهوك لعدة سنوات؛ فكانت اسهاماته واضحة في الترقي بهذه المنظمة والسير بها لخدمة الدين الاسلامي ودعم أعضائها في شتى المجالات الفكرية والاجتماعية والاعلامية من خلال إقامة الدورات ونشر المقالات الدينية بالتعاون مع نخبة خيرة.
كان ملا علي يحس بآلام شعبه المظلوم، ولذا كان همه انقاذ هذا الشعب، فكانت خطبه ومواعظه تصب في هذا الاتجاه، وهو أن لا تناقض بين أن يكون المرء مسلماً وأن يكون كردياً، لذا أراد تكملة دراسته في الماجستير وسار بهذا الاتجاه حيث درس عقيدة عالم كردي من كردستان الشمالية (= كردستان تركيا) وهو (الملا خليل السيرتي – السعرتي)، وحصل من تلك الدراسة على شهادة الماجستير في العقيدة الاسلامية من كلية الشريعة والدراسات الاسلامية – جامعة دهوك عام 2000م.
ولم تثنيه تلك الدراسة عن مواصلة مشواره في خدمة قضية شعبه، فكان لمأساة الانفال وحلبجة تأثير كبير عليه، لذا آل على نفسه دراسة وتحقيق هذا الموضوع الخطير حتى يثبت للعالم عامة وللعالمين الاسلامي والعربي بأن الشعب الكردي المسلم قد تعرض لابشع حملة ابادة(= جينوسايد)، فكان موضوع أطروحة الدكتوراه التي قدمها الى جامعة الجنان اللبنانية يدور موضوعها حول (الانفال بين الشريعة والقانون)، ولكن القدر لم يمهله للدفاع عن أطروحته أمام جامعة عربية، سبق لأحد القياديين المحسوبين على العرب أن أمر بتنفيذ هذه الجريمة البشعة بحق شعب مظلوم جنايته فقط أنه كان يطالب العيش على أرضه برأس مرفوع، كان فقيدنا الغالي انساناً مرهف الحس لآلام شعبه، ومع ذك كان شجاعاً صبوراً يطلق كلمة الحق بوجه أيٍ كان؛ لأنه كان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان شعاره إرضاء الله سبحانه وتعالى، لذلك أحبه الناس وترك فراغه لوعة وحسرة في قلوبهم.
كان له نتاج علمي لا يستهان به رغم قصر عمره، فقد تم طبع رسالته حول عقيدة(الملا خليل السيرتي)، ونشر كتاباً حول المجد المفكر الكردي(الشيخ سعيد النورسي)، كما تم طبع أطروحته للدكتوراه(الانفال بين الشريعة والقانون)، ونشر بحثاً علمياً محكماً في مجلة جامعة دهوك حول العقيدة الاشعرية، والحق يقال لقد استمتعت بقراءة هذا البحث العلمي الممتاز، وبعده مباشرة طلبت من الفقيد أن يكمل دراسته في الدكتوراه حول العقيدة الاسلامية لأنه كان متبحراً في هذا الجانب، وذات قابلية في تفكيك الكثير من المصطلحات الغامضة والمبهمة في
العقيدة الاشعرية والماتُريدية(= الجوهر والعرض وغيرها)، نظراً لدراسته للعقيدة والفقه عند العديد من العلماء الكرد، وفيما بعد دراسته المعمقة في الجامعة الاسلامية على يد علماء كبار من مذاهب أخرى، وكنا في منطقة بهدينا ن بأمس الحاجة الى هذا التخصص؛ فكان لهذا التلاقح الفكري دور كبير في البناء العلمي والفكري المتماسك عند فقيدنا الغالي (الملا علي) رحمه الله، وقد حدثني ونحن في بداية ثمانينات القرن العشرين وكنا قد ذهبنا للسمر عند الملا ابراهيم الحاج سليمان سوكركي برواري زيري(=وإمام جامع محلة الكَلي)، وبحضور شقيقه الملا جعفر، بأن المفكر الاسلامي السوري(سعيد حوى) بعد أن خرج من سجن الطاغية حافظ الاسد، عقب أحداث الدستور عام1973م، طلبته إدارة الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة للتدريس في قسم الدراسات العليا، وجاء الى الجامعة وألقى فيها محاضرات على مستوى عالٍ، كانت النواة لسلسلته العلمية القيمة المعروفة(= الله والرسول والاسلام)، ولكنه لم يلبث أن غادر الجامعة بسبب ارتباطاته السياسية وغيرها، بعدها سافرت الى الموصل بصحبة الملا ابراهيم الحاج سليمان واقتنيت السلسة المذكورة مع كتب أخرى، حيث أعجبت باسلوبه الراقي والعصري حول تحليل الآيات القرآنية والاحاديث النبوية حول العقيدة (الولاء والبراء) التي الى حد علمي لم يتطرق قبله أحد من الباحثين المسلمين الى هذه الناحية، حيث كان الاسلوب التقليدي القديم هو السائد في الساحة.
وقد أشاد به الفقيد كثيرا واعتقد بأنه مفكر كبير وعالم جليل قلما يجود الزمان بمثله، وصدق حدس الفقيد، فقد ألف المرحوم (سعيد حوى) تفسيراً للقرآن الكريم(= الاساس في التفسير)، وسلسلة علمية حول الاحاديث النبوية، خرج منها بدراسات علمية متميزة تختلف عن ما كتبه العلماء الاخرون رغم أن لبعض العلماء مآخذ على كتابه (تربيتنا الروحية) ذات المنشأ الصوفي.
وكثيرا ما كنا نتناقش مع الفقيد في داره أو في المسجد أو عند بعض الاقارب والاصدقاء وتحديداً في منزل المرحوم بأذنه تعالى (الملا محمد شريف طاهر بانصوري دوسكي المتوفى سنة1995م) في أمور العقيدة الاسلامية والعلاقة بين الاسماء والصفات وغيرها أو في مجالات الفقه، والخلاف بين المدارس الاسلامية
بهذا الخصوص، على سبيل المثال المدرسة السلفية بزعامة شيخ الاسلام ابن تيمية، والمدارس الاخرى من أشعرية بزعامة حجة الاسلام الغزالي، وماتُريدية وغيرها، حيث كان يبدو واضحاً القدرة العلمية والتحليلية الفائقة التي كان الفقيد يتمتع بها ونقد أفكار العديد من العلماء والباحثين المسلمين القدامى والمعاصرين، فضلاً عن جرأته في طرح العديد من القضايا الفقهية المعاصرة والافكار التي تتناقض مع أفكارنا التقليدية السائدة.
هناك جانب مههم من أفكار فقيدنا أردت عرضها على بساط البحث في هذه العجالة، وهو أنه كان على خلاف مع الاسلاميين الكرد، وفي اعتقادي أنه خريج الجامعة الاسلامية، وحصل على شهادات عليا في الاسلام لا يعقل انه ينفي السياسة عن الدين، لأن الاسلام هو الدين الوحيد الذي يجمع الاثنين وقيادة الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين للدولة الاسلامية أبرز مثال واقعي وحي على ذلك، ومن جانب آخرفإن عقيدته الاسلامية الصافية لا تقر الفصل بذلك، ولكنه الخلاف بين المسلمين بين أتباع المدرسة السلفية المعاصرة وبين غيرهم من الاسلاميين حول أسلوب العمل الحزبي في التاريخ المعاصر، لأن أتباع المدرسة السلفية العلمية يعتقدون بأن الفوز والفلاح الذي يصيب المسلمين هو في إتباع نفس النهج الذي إتبعه الصحابة والتابعين لهم باحسان(= التربية والتصفية – فهم السلف)، بينما يجمع الاخرون بين اسلوب الاصالة والمعاصرة، ويعتبرون التنظيم الحزبي ليس الا وسيلة لبلوغ الغاية القصوى وهي تحكيم الاسلام في شؤون الحياة(= الاسلام نظام حياة). فكان فقيدنا الغالي يعتقد بالاسلوب الاول وينكر وينافي التحزب والحزبية، ويقول بأن هذا التحزب قد جرعلى المسلمين الكثير من الفتن وحوادث الانشقاق والصراعات التي نحن في غنىً عنها، ولا تقبل الدول الغربية سيطرة الاسلاميين على مقاليد الحكم في الوطن الاسلامي، فلذلك كان البعض من هؤلاء الاسلاميين ينظرون الى الفقيد نظرة خاصة على أنه يؤيد أحد الاحزاب العلمانية!(= الحزب الديمقراطي الكردستاني تحديداً).
وهناك أمثلة واضحة لهذا الجدل بين بعض علماء الدين والاسلاميين، مثال على ذلك من التاريخ المعاصر هو الخلاف في العديد من القضايا بين بعض علماء الحديث في شبه القارة الهندية وبين أتباع الجماعة الاسلامية بزعامة مولانا(أبو الاعلى المودودي)، وكذلك الامر في مصر بين أنصار السنة المحمدية والاخوان المسلمون، وهناك أمثلة كثيرة الان أعرضنا عنها خوف الاطالة؛ ولكن هذا في رأيي (= الخلاف) لا ينطبق على وعاظ السلاطين ومن يسيرون في ركاب الطغاة والمتجبرين(= الدكتاتوريين) القساة على شعوبهم، ويصدرون الفتاوى الجاهزة لدعم أنظمتهم العميلة والمتهالكة.
ومع ذلك كانت للفقيد علاقات صداقة مع العديد من الاسلاميين وكانوا يزورونه في داره بين الفينة والاخرى للسمر، فكانت لديه علاقة ود مع الاستاذ(ديندار نجمان آغا الدوسكي)، ومع الاستاذ (خليل ابراهيم طلوي مزوري)، ومع الدكتور اسماعيل سيكري، وغيرهم، وكانوا يتناقشون بمنتهى الصراحة، ولذا كان هؤلاء الاسلاميين يحترمون الفقيد ويقدرونه لصراحته وجرأته في الحق. وطرح رأيه بكل شفافية.
كان الفقيد ملا علي كريماً جواداً ومضيافاً بحق، وكانت داره مزدحمة على طول بالضيوف والمحتاجين، لا سيما في سنوات الحصار بعد عام 1991م، وكانت هذه سيرة والده ايضاً ملا نبي وشقيقه صالح نبي (رحمهما الله تعالى رحمة واسعة).
وقبل أكثر من سنة من وفاته كانت لنا جلسة سمر في منزل الفقيد ليلة السبت من كل اسبوع، وكانت مأدبة فقهية وعلمية، وكان لسخائه يكرم ضيوفه دائماً باقامة مآدب طعام في أكثر الليالي تكريماً لجلسائه، كان يحضرها كل من : فرست مرعي، ملا تحسين ابراهيم دوسكي ابن شقيقة الفقيد، ملا أنس ملا محمد شريف ابن شقيقة الفقيد، المرحوم الدكتور محسن صالح ابن شقيق الفقيد، ملا محسن ابراهيم دوسكي ابن شقيقة الفقيد، نصرت ابراهيم بريبهاري، جمعة بندي، شفان علي آدم، ناجي نبي كرمافي، وآخرون، وكنا في هذه الجلسة نتجاذب أطراف الحديث حول شؤون عديدة: دينية وفكرية وثقافية، وياليت تلك الايام الخوالي تعود وما أطيب الذكرى لذلك الحين ولتلك المحبة الصادقة، ذهب هو وبقينا على خلافه،
وسوف نستريح من كل تعب ونتركها كما تركها وليست هذه الدنيا بدار اطمئنان وقرار بل دار مغادرة وسفر وارتحال من إطمأن اليها خسر ومن رغب عنها ربح، وكان فقيدنا يترأس تلك الجلسة ويدير أطراف الحديث، وأتذكر جيداً انني دخلت في نقاش حاد مع أحد المسؤولين حول قضية فكرية وكان يحضر بعض الجلسات، وتلاسنَا فحاول الملا علي تهدئة الموضوع، وقال لي بكل صراحة وشفافية بعد ذلك: في كردستان لكي تكون صاحب حظوة يجب أن تكون منتسباً لعشيرة كبيرة ومنتمياً لحزب قوي، والدِلالة واضحة.
رحم الله ملا علي ملا نبي(= أبا شيروان) رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته، حيث ترك محبيه وتلامذته لوعى في صبيحة يوم الخميس 29/6/2006م قبل عشر سنوات بعد مرض عضال لم يمهله طويلاً، ولنا الامل في نجله(شيروان) أن يُكمل مسيرة والده المعطاة، لاسيما وأنه خريج العلوم الاسلامية من جامعة صلاح الدين، حتى تبقى الشمعة موقدة في هذا البيت الاسلامي الكبيرتنير الدرب للآخرين؛ والله من وراء القصد.