17 نوفمبر، 2024 9:54 م
Search
Close this search box.

لقالق سمرقند ومنائر الجبايش

لقالق سمرقند ومنائر الجبايش

بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي نالت دول البلطيق استقالالها واصبحت جمهوريات مستقلة تمنح جوازات بأسمها واعلامها القومية ، ولم يكن قبل ذلك لأحد يخرج دون ختم على جواز يتوسطه المطرقة والمنجل والراية التي اسسها لينين لتكون فاتحة للاممية الاشتراكية ــ الشيوعية في كل الارض.
لكن ثمة كائنات من سكنة تلك الجمهوريات كانت تسافر ايام السوفيت دون جوازات وتأشيرة ، تذهب الى اي مكان وتعبر الحدود دون ان يسألها احد عن اوراقها الرسمية .

تذهب شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وكأنها تقلد الاسكندر في فتوحاته العالمية الاولى يوم ابتدا السفر من مقدونيا الى بابل مع عدة الحرب وفلاسفة يعلمونه الحكمة والمنطق.

ومثله فعل المغول اللذين اخذوا نصف العالم واكتسحوه دون جوازات سفر ، ومثل المغول فعل جيش الملكة فكتوريا البريطانية ، لكن الثلاثة ، الاسكندر والمغول وفكتوريا لم يستطيعوا الوصول الى مناطق الاهوار ، ربما لانها بفضل بيئتها لم تسمح لمن يحمل جواز سفر او لم يحمله باللوج الى عالمها المتفرد بالصمت والفطرة والحياة التي تسكنها المياه والقصب ومشاتي الطيور ومشاحيف الصيادين.

لكن طيور تلك المدن اتت لتعيش في مشاتي الاهوار منذ ازمنة الطوفان والى اليوم ، ولم يطلب منها ان تُريَّ اهل الاهوار جوازات سفرها واختامها الزرقاء المدورة ، لان اهل الاهوار يعتقدون ان الطيور الاتية اليهم لتقضي اشهر الربيع واوائل الصيف بين اكمة القصب وعلى وسائد الموج وفي سماء القرى العائمة في فضاء من المياه ، انما هي من بعض اهل المنزل تأتي في اوان موقوت لتعيش بينهم تمنحهم لحمها وريشها وتغريداتها واسرابها الطائرة بين الغمام الابيض وشبكات الصيادين.
هذه الكائنات التي ترتدي الاجنحة معاطف والقادمة من المدن البعيدة التي تكون الحرارة في شتاءاتها اكثر من عشرة مئوية تحت الصفر . هي الطيور التي اعتادت ليكون مشتاها هنا ، وكنا في قرية المحاريث ندرك مع وصول اول طائر قادما من المدن الاسكندنافية او البلطيق أن الربيع حط رحاله هنا , وطالما كنا نقضي مساءاتنا بعد الدوام المدرسي بتأملها ومع اسرابها وهي طائرة او وهي تفتش بين القصب الكثيف عن مكان ملائم ليكون عشا لها ، لأعود امتع المزاوجة بين ما اراه وما اقراه عن جمالية البيت حين يكون عشا لطائر في تلك اللغة المتفردة التي يسطرها لنا غاستون باشلار في كتابه ( جماليات المكان ).

فأتخيل أن الطائر ليس كما الانسان في ذائقة المكان ، فالأنسان يريد من المكان فراش وانثى ومشارك يمنحه الدفء والتناسل إن كان ذكرا أو أنثى .

الطيور تشترك مع البشر في الحاجة الى الآخر من أجل الدفء والتناسل ، ولكنها لن تحتاج الى وسادة وسرير . بل الى مكان ( العش ) الذي يوفر له مكانا لالتقاط حبة القمح والاستراحة من نهارات الطيران والهروب من بنادق الصيادين وحصى مصائد الاطفال لتشاهد ان السنونو القادم من مدن اسكندنافيا قد لايحتاج الى عش عندما كنا نراه غافيا وهو يحط على اسلاك اعمدة الكهرباء او التليفون ، أو نراه مختبئا بزاوية خشبية منحوتة في شرفة شناشيل منزل يهودي في شارع التوراة في مدينة الناصرية ، فيما يفضل البط الخضري ان تكون اعشاشه بين اعواد القصب النابت وسط مياه الاهوار وتفعل معه الكثير من انواع الطيور.

وحدهها اللقالق تختار لها امكنة عالية وشامخة تبني عليها اعشاشها ، ولا تقترب الى بيئة الاهوار إذ تلجيء اغلب اللقالق القادمة من ازوبكستان والمانيا وارمينيا ومدن البلطيق في استونيا وفلندا ولاتفيا ولتوانيا الى منائر الجوامع لتبني اعشاشها ، وبالرغم من قلتها في وصولوها الى العراق حيث لاتفضل اللقالق الهجرات الطويلة لثقلها حيث يتجاوز وزن الطائر الثلاثة كيلو غرام ، إلا انها كانت تصل فيشكل منظرها الجميل وهي تقف بسيقانها الطويلة على منارات جامع الجبايش الصورة المنظورة لحلم معلمي الاهوار عندما يعلموا ان هذه الطيور اتية من سمر قند ومدن نهر الراين وارمينا ، فيتراقص فيهم اشتياق للسياحة في شوارع بون ودوسلدورف وكولونيا أو تسكن بهجة التمني قلب احدهم ليتأمل الطائر المنتصب فوق المنارة وهو يناشده آه ما اجمل الطريق بين الجبايش ــ وسمر قند .

أحدث المقالات