هل دق ناقوس الخطر على الفن العربي والاغنية العراقية _ على وجه الدقة والتحديد _؛ أم هل أُفسدت ذائقتنا، وما هي علاقة الفن بالانحطاط السياسي للأمة، وهل انحطاطنا الديني والسياسي والاخلاقي هو سبب ذي صله في نقل عدوى الترّدي والانحطاط إلى قضايا الفن، إذ حتى اللحظة لم اتعافى من استيعاب صدمة أغنية “البرتقالة” و”المشمشة” و”التفاحة” و”العرموطة” و”الرمانة” و”الليمونة” و”الطماطاية”، و”الباذنجانه”؛ حتى تحول الغناء العراقي من الفواكه والحمضيات إلى المواد الانشائية لنلوّث مسامعنا بأغنية (الكاشي) للمطرب النازل حمزة القيسي، ثم ننتقل إلى طور السرقات والسطو على جيوب الأخرين ليفاجئنا النجم الهابط محمد السالم عن (باك محفظتي وسرقته)، ولا أدري ما علاقة هذه الأغاني بالوضع المعاشي والبيئة المحيطة بنا، هل هناك رابط وثيق بينهما هذا النوع المنحط من الأغاني والعهر السياسي الذي نعيشه تحت رحمه “شيوّخ الموّدرن”؛ يفترض أن يكون الأمر كذلك لأن الأغنية كالفيلم والمسلسل تعد مرآة ٍلانعكاس الواقع الاجتماعي للبلد.
وبتعبير أدق ما هي علاقة البرتقالة بالانفتاح الاقتصادي العراقي بعد الاحتلال الأمريكي أكيد لها صلة بالأمر لتدفق البضائع وفتح الأسواق والحدود على مصراعيها أمام التجارة العراقية وتحررها من استيراد الحمضيات والفواكه الممنوعة (سابقاً)؛ أما قضية الكاشي فهي الأخرى مرتبطة بشكل وثيق بالوضع العمراني العراقي المتمثل هو الاخر بالانفتاح على دول الجوار لاستيراد المواد الانشائية وتحرك سوق البناء في العاصمة بغداد وضواحيها وتحديداً في المنطاق المتجاوز على حدودها البلدية “التجاوزات”.
فيما ترتبط أغنية السرقات أو باك محفظتي بشكل أوثق وأكبر في الوضع السياسي العراقي، فالنصب والاحتيال والسرقات التي مارسها السياسيين العراقيين من السطو على البنوك والوثوب على المصارف ومشاريع شراء الاسلحة الفاسدة والمواد الغذائية التالفة وهدر املال العام وتزوير عقود المقاولات الوهمية جعل الناس تكتب الشعر وتغني بالسرقات لتُطفئ ظمأً مما تعاني منه وتعبر عن مآستها في الغناء، خصوصاً وأنْ الأغنية العربية كما يقول المثل عنها (رقصت في مصر ودبكت في اليمن وبكت في العراق)!!
وحتى اللحظة ادعو الله إنْ يُنسيني فاجعة الفن العراقي الرخيص وتناسي ألحان البرتقالة والكاشي وغيرها؛ فيما يُصدمني الحال مرةٍ أخرى وأنا أطالع اليوتيوب حتى تصدمني المطربة “الصاعدة على السطح” المدعوه “شمس المصلاوي” بأغاني: “شكثر يحمه”، “حاجة بربع” و”زواحف”، وكأنك تتخيّل نفسك في باب الشرقي وصوت ينادي عليك “حاجة بربع”!!، وهذا هو تعبير عن حالة الفقر الثقافي العراقي الذي آل إليه الحال وعانى منه الوطن نتيجة الجهل المقدس.
أنا لا ألوم المطرب لكني ألوم دور الانتاج، وألوم أكثر هؤلاء الشعراء، والملحنين على أي معيار استندتم في تلحين “الكاشي” و”الطابوكة” و”الرمانة”؛ فقط أسأل الشعراء والملحنين هل سمعتم أغنية (مسافرين) لياس خضر، أو (أنا من حبيت تدريني) للمرحوم طالب القرةغولي، أو (طير الحمام) لرضا الخياط، أو (حسبالي) لسعدون جابر أو (موج الشواطئ) لفاضل عواد، (رديت وجدامي) لحسين نعمه، أنْ سمعتم بتلك الأغنيات فتلك مصيبة، وإنْ لم تسمعوا بها فالمصيبة أعظم!!
أخشى ما أخشى أنْ تتصور هذه المسوخ الفنية الجديدة أنها خليفة لطالب القرة غولي أو ياس أو سعدون أو فاضل، وأخشى أنْ يعتبرون أنفسهم فوقهم، وهو ما صرح به أحد المطرين الجُدد أنهُ أفضل من ياس خضر، لكن اعتبرت هذا التصريح من شخص غير مسؤول لم يبلغ سن الفن بعد!
فالأغنية العراقية اليوم تُحضر بفعل ضربات الملحنين الخائفة وأهازيج الشعراء الرعناء .. أغيثوا الفن العربي .. اسعفوا الاغنية العراقية قبل أنْ تلتهما زوبعة الأغاني الهابطة .. أناشد “الضمير الفني” فينا وأطالب بإعادة هيكلة وزارة الثقافة والهيئات والدوائر ذات الصلة، وإعادة ترميمها فنياً، واختيار وزير لها بعيداً عن المحاصصة الطائفية المقيتة، وأنْ يكون وزيرها إما طالب القرة غولي في قبره، أو ياس خضر في منفاه!