هذا هو واقع حال أطفال العراق، فهم ضحايا سياسات خاطئة امتدت لعشرات السنين كانوا خلالها يُجلدون كل يوم بسياط الحرمان والجوع والموت البطيء وهي عدالة من كان يحكم البلاد، حيث وزع ظلمه على كل فئات الشعب ولم يستثن أحدا، إلا إن أطفالنا كان لهم النصيب الأكبر من هذا الجور مما جعلهم يسبقون أعمارهم بعشرات السنين، وتمثل ذلك بطرق تفكيرهم واعتمادهم على أنفسهم منذ نعومة أظافرهم لأنهم فقدوا ذويهم من جراء حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل من اجل إرضاء غرور وغباء ساستنا، فصاروا ينتظرون عاشور أكثر من انتظارهم للعيد لكون عيدنا لا طعم له، أما عاشوراء فهو تفريغ لآهاتهم وإن كانوا أطفالا .
سألت إحدى البنات الصغار في الشارع : ماذا أعددت للعيد؟ فأجابت : (يا عيد ؟ العيد لأهل العيد) . وقد تأبطت (شليف) جمع القمامة وعلب المشروبات الغازية سعيا لجلب لقمة العيش لأمها العاجزة وأخواتها الصغار . فسألتها أين بيتكم ؟ ابتسمت قبل الإجابة وقالت : (يا بيت؟ نحن نسكن بالحواسم داخل جدران بدون سقف )، فداعبتها بسؤال آخر أعرف إجابته مسبقا : هل أنت بالمدرسة؟ فثارت وقالت : ( أقول له أنا يتيمة وأسكن بالحواسم وأعمل بجمع العلب الفارغة وهو يقول لي أنت بالمدرسة، نعم أنا في مدرسة أكوام النفايات ومكب الأزبال وصفي أرصفة الشوارع والأماكن المهجورة ومرحلتي هي مرحلة الجوع والحرمان وأمنيتي في المستقبل أن أكون مسئولة عن كل جامعي القمامة في البلد ).
إن ما كتبته ليس مشهدا من مسرحية، بل هو واقع وقد حدث فعلا مع إحدى اليتيمات والتي من خلالها استطعت أن أجد العلاقة مابين اليتم والتسرب من المدارس والعمالة المبكرة للأطفال، وتتمثل هذه العلاقة مابين اليتيم وتسربه من المدرسة لكونه ما إن يفقد والديه أو أحدهم حتى يجد نفسه أمام تحد هو أكبر من اليتم، وليس لديه خيارات وإنما أمر واقع ومفروض عليه وأنه أصبح الوريث الشرعي لكل معاناة الأسرة في الحاضر وفي المستقبل، وعليه القيام بمسؤوليته تجاههم على أكمل وجه على الأقل من وجهة نظره هو . ويبدأ هذا الالتزام يسحبه شيئا فشيئا من متعة حياته وبراءة طفولته وتحوله إلى كهل صغير وماكينة عمل تعمل من الصباح الباكر إلى أن يسدل ستار النهار . وفي أخر الأمر قد لا تمكنه أقدامه وتعينه على الرجوع إلى بيته، فيتوسد ما يحمله لينام ويكمل مشواره دون انقطاع . وبذلك يكون قد فقد التزامه بالدراسة وتراكمت عليه المواد الدراسية وحين يفكر بالعودة إلى المدرسة يتذكر وجه معلمته المتجهمة وهي تحمل عصا العقوبات وتطالبه بواجباته المتأخرة وليس لها أي علاقة بأسباب غيابه أو مشاكله أو ظروفه . لذلك يختار اقصر وأسهل الطرق وهي ترك المدرسة ليريح باله ويتفرغ لعمله الذي ينفق وقته كله من اجله. وتستمر رحلة العناء ويقوم اليتيم بالبحث عن أعمال أخرى اكبر من قابليته بغية الحصول على مبالغ أكثر تسد احتياجاتهم اليومية، وهي بطبيعة الحال اقل بكثير من احتياجاتهم الحقيقية ، إلا أنهم تعودوا أن يقبلوا باليسير وهي طبيعة غالبية العراقيين الذين وضعوا لأنفسهم شعارا اسمه (علاكة مسواك اليوم)، وهذا هو أقصى غاياتهم وطموحهم .
بالعودة إلى يتيمنا الذي يبحث عن إعمال تفوق قدراته الجسمية ولا توازي عمره، نجده بالشوارع أينما حللنا وأينما أدرنا وجوهنا يعمل بلا كلل بإعمال شاقة تحطم طفولته وتسرق أجمل لحظات سنينه وهو غير مكترث بها، وفوق هذا وذاك فغالبية الأيتام يعملون تحت إمرة أرباب إعمال غادرتهم إنسانيتهم مع أسراب قيمنا الأصيلة إلى غير رجعة، فيذيقونهم مر العذاب ويتفننون في إيذائهم بحجة تعليمهم سر المهنة والمصلحة . وهي اسطوانة مشروخة ووتر يعزف عليه الاستغلاليون والجشعون ويبررون لأنفسهم عملية امتصاص دماء الفقراء واستغلالهم . وهنا يكون الأطفال عرضة للاستغلال الجسدي والجنسي وللإصابات الخطيرة من جراء هذه الإعمال، وكثيرا ما نشاهدهم يحملون ندبا في أماكن متفرقة من أجسامهم ويتعرضون أيضا للإصابة بإمراض خطيرة وقاتلة .
هنا يجب أن نتوقف عن سرد معاناة أطفالنا ونفكر بحلول نطرحها أمام المسئولين لكي نتشارك معا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه أو ما تبقى من أطفالنا في الشوارع تائهين، وهذه بعض المقترحات والحلول:
أولا- تشريع قوانين تحمي الطفولة في العراق مع العمل بها وليست مجرد حبر على ورق.
ثانيا- متابعة الطلاب المتسربين من المدارس ومعرفة أسباب تسربهم وإيجاد الحلول لهذه الأسباب من خلال تعيين باحثين اجتماعيين متخصصين أكفاء للعمل في المدارس، بحيث يمنحون كل الصلاحيات والخصوصية في عملهم وعدم التدخل في شؤونهم.
ثالثا- محاسبة أصحاب المهن الذين يعمل لديهم أطفال غير بالغين وغلق محلاتهم ليكونوا عبرة لغيرهم.
رابعا- تشريع قوانين خاصة بالأيتام تكفل لهم العيش الكريم وتحول دون لجوئهم إلى العمل بسن مبكرة .
خامسا- بناء مجمعات لأصحاب العشوائيات ونقلهم إليها وتوفير كل الخدمات اللازمة لهم وإطلاق برامج توعية خاصة لهم تهدف إلى رفع مستواهم الثقافي والصحي والنفسي .
إن هذه من أهم الحلول التي تساعد على الحفاظ على أطفالنا وترجعهم ضمن وضعهم الطبيعي وهي ليست كاملة طبعا إلا إنها الأهم . ومتى ما تم العمل بها فإننا بالتأكيد سنخرج بأقل الخسائر وهذا ما نطمح إليه .
* باحث نفسي / مدير البيت العراقي للأيتام