تحدث الفضائيات ووسائل الإعلام كثيرا عن الانقلاب التركي الفاشل الذي اندلعت أحداثه ليلة 15- 16 تموز الجاري وانبرى كل محلل ليدلو بدلوه ليدمج بين ما يراه أو ما يتمناه ويسقطه كواقع مفروض على الحالة فمن كان يتمنى أن ينتهي حكم اردوغان طبل وهلل لنجاح الانقلاب ومن يرى إن مصلحته مع بقاء اردوغان قلل من أهمية الفعل العسكري وبشر بفشله وراح هذا وذاك يبني تصورات عن الوضع المستقبلي التركي مع خطوات الانقلاب الأولى والإعلان عنه اثر قراءة بيان الانقلابيين الأول بعد السيطرة على محطة التلفزيون الفضائية الرسمية التركية مع إن كثيرا من مواقف الحكومات الرسمية العالمية كانت معلقة وحبيسة صدور أصحابها تنتظر انجلاء الموقف لكي تبارك للفائز فوزه كما هو شأن العاملين في حقل السياسة ولمن يعي الحالة التركية ويتابع شأنها لابد انه كان يدرك منذ البداية إن الانقلاب في أحسن حالاته لن يتعدى عن كونه وسيلة لهدر دماء الأبرياء السذج ممن يرتضون لأنفسهم إن يكونوا مطايا للأقوياء وأدواتهم في قتل إخوانهم وفي حالة نجاح الانقلاب أو فشله سينتهي دورهم ولا احد يعترف لهم بحقهم ولا احد يحترم فعلهم إلا بقدر قوتهم لأنهم حاولوا اغتصاب حق شعبهم والعبور على القانون عنوة وبقوة السلاح وضرب الخطوات الديمقراطية في بلدهم أيا كان الطريق الذي سلكته والوسيلة التي جاءت بهؤلاء إلى الحكم.
إن الموقع التركي بالنسبة لخارطة العالم لا يقل أهمية عن أي من دول الشرق الأوسط التي شهدت منذ بدايات النهضة الأوربية الأولى الصراع العالمي الدامي بل لعل تركيا أكثر أهمية من العراق أو سوريا أو اليمن الآن لأنها بوابة الدخول الأمثل ومفتاحها إلى هذه الدول أو لأنها حلقة الوصل أو العصا التي يمسكها الجميع من الوسط لتجمع بين أوربا التي تعتبر العالم الأول المتحضر والمتطور والمتقدم الذي يقود العالم وبين العالم الآخر المتخلف الذي وجب عليه الانقياد إلى الأقوى كما يحاول البعض أن يصوره ويفرضه علينا واقع حال ولابد من الانصياع إليه ومن جانب آخر إن تركيا تجمع بين نمطين من الحضارة متصارعين في كل شيء بين المسيحية الغربية من جهة والإسلام من جهة ثانية والاهم من هذا تقع تركيا بين جبهتين لتيارين إسلاميين متصارعين هما الإسلام السياسي الشيعي والإسلام السياسي السني وتحاول الظهور بالاعتدال أو الوسطية وبذلك تعتبر تركيا من أهم بلدان المنطقة التي لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تكون حرة في صناعة قادتها واختيارهم أي إن الغرب الذي يدير العالم من خلال شبكة عملاقة من أجهزة المخابرات لا يمكن أبدا أن يسمح بتبديل وجوه السياسة التركية إلا بموافقته ولأشخاص يعدهم هو للقيام بواجبات معينة ولعب ادوار محددة لا يسقطون إلا بإرادته مهما كان الثمن ولو كان الانقلاب قد نجح دون موافقة الغرب لتحولت الأراضي التركية مسرح لقوات حلف الناتو وهي عضو فيه خلال ساعات تحت ذريعة حماية الديمقراطية والشرعية وما شاكل ذلك من الأعذار بالإضافة إلى خطواتها الحثيثة للانضمام إلى الاتحاد الأوربي.
إن ما حصل في تركيا لا يعدو عن كونه مسرحية هزيلة أعدتها أجهزة المخابرات العاملة في المنطقة لتحقق فيها مجموعة من الغايات قسم منها لتأديب اردوغان وحكومته وقسم منها لتأديب غيره ولوضع الجميع على سكة القطار الذي يجب أن يركبوه ولا يستطيع المرء أن يتجرع الغباء ويقتنع إن تركيا يمكن أن تكون عرضة للانقلابات العسكرية ولها ما لها من دور كبير معلن أو غير معلن في إشعال الفتنة الحالية في كل دول الإقليم ابتداءا من سوريا والعراق ولا ينتهي دورها أو يقف في آسيا أو أفريقيا على الأقل لأنها قاعدة لتدريب وإعداد وانطلاق عصابات داعش الإرهابية ولأنها الممول المالي الكبير لها ولا نحتاج إلى عناء كبير لإثبات ذلك فالكل يعلم إن مئات الشاحنات المحملة بالنفط العراقي والسوري تعبر الحدود باتجاه تركيا لتشتريه بأسعار زهيدة عائداته المالية تتحول إلى قنابل قتل ورصاص يضرب صدور أطفالنا ومفخخات تفجر مدننا ناهيك عن آلاف المرتزقة من كل العالم الذين يتم إعدادهم وتدريبهم في معسكرات تركية يتوجهون بعدها إلى المناطق التي تسيطر عليها تحت أنظار الغرب الذي يدعي ظلما وبهتانا محاربة الإرهاب .
إن تركيا دائما ومنذ زمن بعيد لها موقفان الأول معلن مساند للعرب وحركاتهم التحررية والثاني يدعم الغرب ويلبي مصلحتها وطموحاتها في إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية ولسنا بحاجة إلى التذكير بمواقفها من جيرانها العرب وربما عن قريب سنسمع إنها تساومنا على المياه التي تزود نهري دجلة والفرات مقابل النفط .
إن عصر الانقلابات العسكرية في المنطقة قد ولى دون رجعة مهما كانت الأسباب بفضل الديمقراطية الأمريكية للسهولة البالغة التي تلبي لها مصالحها وتبديل سلس وسهل للقادة الذين يعملون لخدمتها قبل خدمة شعوبهم واكرر إن ما جرى في تركيا إنما كان سيناريو ذو أهداف محددة وليس انقلابا وربما تكشف لنا الأيام القادمة حقيقة ما جرى بصورة أكثر وضوحا .